في موجبات الاستجابة العاجلة لمفرزات مشروع "العودة الطوعية"

2022.05.21 | 06:40 دمشق

645x344-1651572262364.jpg
+A
حجم الخط
-A

عندما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً وبشكل رسمي عن مشروع "العودة الطوعية" لمليون لاجئ سوري من تركيا إلى مناطق الشمال السوري، فهو لم يعلن فقط عن انتهاء سنوات عسل السوريين في بلده، وإنما أعلن فقط عن مجرد بدء مرحلة أولى من مشروع ينفذ على مراحل يهدف لإعادة كل اللاجئين السوريين في تركيا أو لنقل سوادهم الأعظم وطي تلك الصفحة إلى الأبد من وقائع الحياة الاجتماعية والسياسية التركية.

الحكومة المؤقتة للمعارضة ما تزال ربما تحت وقع الصدمة ولم تستفق بعد على الحقائق الجديدة التي سيفرضها هذا المشروع على واقع حياة السوريين في مناطق الشمال التي تقع تحت سلطانها أو هكذا يفترض وماتزال تتكىء على يدها اليمنى وراحة كفها على خدها الأيمن، بينما (تهرش) بأصابع كفها الأيسر رأسها علها تجد إجابات واستجابات لما يلقيه هذا المشروع على كاهلها من مسؤوليات يبدو من الواضح تماما أنها لم تكن في خريطة حساباتها.

ما تزال القوى العسكرية تتعاطى مع كل الأمور كبنى ميليشيوية ولا تبدي حتى الآن أية إشارة إلى إمكانية إعادة صياغة تلك البنية العسكرية وفق تراتبية مهنية

واقع الحال في الشمال حتى اللحظة لا يؤشر لأي استجابة من أي نوع لهذا المستجد، ولم يطرح أحد بعد إجابات عن كيفية التعاطي مع مفرزات ونتائج هذه المستجدات.. فما تزال القوى العسكرية تتعاطى مع كل الأمور كبنى ميليشيوية ولا تبدي حتى الآن أية إشارة إلى إمكانية إعادة صياغة تلك البنية العسكرية وفق تراتبية مهنية ترتبط بسلطة واحدة مركزية يفترض أن تكون مرجعيتها الحكومة المؤقتة، وما تزال تحرص على بقائها حارسة لإقطاعياتها والمساهمة في إدارة موارد اقتصاد الحرب الذي تتعيش عليه.. بينما توغل المجالس المحلية في افتراض أنها المعنية بإدارة كل الملفات الداخلية أيا كان نوعها، وسواء أكانت داخلة ضمن اختصاصها أو خارجة عن ذلك، وما يزيد من تعقيد الأمور أنها مرتبطة مباشرة بالإدارة التركية في الولايات الجنوبية الحدودية وما تمليه عليها من سياسات وقرارات أكثر من ارتباطها باحتياجات المنطقة التي تزعم تمثيلها لها وتدعي إدارة مختلف شؤونها.. أما القضاء ورغم أنه من أهم المؤسسات التي يجب الاشتغال عليها ودعمها وتعزيز قدرتها على إرساء العدل وإنفاذ القانون لما لذلك من أثر غاية في الإيجابية على تلك المناطق وسكانها، فإنه مع الأسف مهمش وفي غيبوبة تامة دخلها إما طواعية وامتثالا لعوامل وموازين القوة أو أدخل فيها قسرا باعتباره على الضد مما يجري وما يراد له الاستمرار من حالة الفوضى المنضبطة بموازين القوى وقهر السلاح.

ليس من المفيد الإسهاب والاكتفاء بالتوصيف وندب واقع الحال الذي وصل إلى مرحلة لم يعد من الممكن احتمالها على مختلف الصعد، وفي مقدمتها حال الناس المعيشية والتي من المتوقع أن تزداد سوءا لا قدّر الله مع تزايد الأزمات العالمية وارتداداتها التي بدأت تظهر تبدياتها الأولى على المنطقة عموما.

اليوم نحن أمام استحقاقات كبيرة ومسؤوليات أكبر.. لا ينفع فيها فقط الاتكاء على تركيا التي وعدت ببناء مساكن وبنى تحتية للعائدين أو المرحلين لا فرق.. بل صار يتعين علينا وعلى نحو عاجل وضع خريطة طريق واضحة الخطوات تجيب على أسئلة من قبيل: كيف يمكن أن ندير شؤون الناس على نحو أمثل على مختلف المستويات الصحية والتعليمية والقانونية والاقتصادية والخدمية وفرص العمل؟ وكيف ومن أين نؤمن الموارد اللازمة لفعل ذلك؟

ثمة مليون سوري الآن – ربما سيكونون مجرد دفعة أولى - سيكونون جزءاً من البنية السكانية في تلك المنطقة، ولم يعد ممكنا بطبيعة الحال التعامل مع الأمر بنفس الطريقة والأدوات القائمة الآن

أعتقد أن الإجابة عن تلك التساؤلات تفترض إعادة صياغة الوضع بكليته في مناطق الشمال، بدءا من تشكيل مجلس قضاء يتولى شأن المؤسسة القضائية ورجالها ويتمتع باستقلالية في قراراته عن الإدارة الحكومية، مرورا بإعادة تنظيم وحدات وتشكيلات عسكرية جديدة يقودها عسكريون محترفون ومختصون ينظمون بنيتها وأماكن وجودها وانتشارها بعيدا عن المدن، ويمنعونها من التدخل بحياة الناس - بديلا عن الشكل الميليشيوي الحالي – وتخضع كل تلك التشكيلات لقيادة أركان عسكرية تتبع وزارة الدفاع وتأتمر بأمرها فحسب، وعلى المستوى التعليمي إناطة الأمر لمختصين ضمن مديريات تتبع وزارة التعليم وكف يد المجالس المحلية عن هذا الشأن، أما على المستوى الخدمي فتضطلع به مجالس محلية يتم انتخابها بشفافية وتقوم بدورها المحدد لها وفق قانون الإدارة المحلية المعمول به.. وصولا إلى تنظيم انتخابات عامة لانتخاب أعضاء الحكومة نفسها التي يقع على كاهلها إدارة هذا الشأن كله وإطلاق بضعة مشاريع تنموية زراعية وحيوانية وصناعية متوسطة تستوعب بعض الأيدي العاملة الموجودة أصلا أو العائدة من تركيا تعتمد في تمويلها على موارد المعابر الحدودية والهبات الدولية، دون أن يغيب عن البال حوكمة الأداء وترشيد الإنفاق ودون أن نغفل أهمية دور مؤسسات المجتمع المدني والنقابات التي يجب أن يدرك قادتها أن دورهم لايقتصر على مجرد تنظيم وإدارة شؤون أعضاء تلك النقابات فحسب، بل ثمة دور مجتمعي أوسع نطاقا لها لا يقل في أهميته عن دورها التقليدي، يتعلق بالدفاع عن الحريات العامة وتعزيز استقلال القضاء، ودعم عمليات الحوكمة والإصلاح الهيكلي لأدوات الحكم والإدارة في المنطقة.. وقبل كل ذلك وبعده إعادة صياغة العلاقة مع تركيا وشكل ومستوى التنسيق معها لخدمة المصالح المشتركة.

ثمة مليون سوري الآن – ربما سيكونون مجرد دفعة أولى - سيكونون جزءاً من البنية السكانية في تلك المنطقة، ولم يعد ممكنا بطبيعة الحال التعامل مع الأمر بنفس الطريقة والأدوات القائمة الآن، فهل سنتمكن من فعل ذلك؟ وهل ستكون لدينا القدرة والإرادة للقيام بما يتعين علينا فعله تجاه هذا المستجد، أم ستبقى الحكومة المؤقتة مستمرة في إسناد خدها الأيمن على راحة كفها بينما (تهرش) باليد اليسرى رأسها بحثا عن مخارج للمآزق التي وصلت إليها حال السوريين وأحوالهم؟!.