في معضلة الدول المتدخلة عسكريا في سوريا

2023.03.05 | 05:55 دمشق

في معضلة الدول المتدخلة عسكريا في سوريا
+A
حجم الخط
-A

قبل عام مضى كان كل شيء مختلفا، ولو استمرت الأمور على ما كانت عليه لكان من الصعب على المرء أن يخمن الطريق الذي تسير فيه الأمور. قبل شباط عام  2022م، كان كل شيء في الوضع السوري يشير إلى أن دول أستانا ستبقى مؤثرة في الشأن السوري، وهي الدول التي تمتلك قوات على الأرض السورية. لكن عاما ميلاديا حمل معه كثيرا من التطورات التي قلبت كثيرا من موازين القوى على الأرض، وقد تضافرت العوامل السياسية والاقتصادية والطبيعية في صناعة واقع مختلف لم يكن ممكنا التفكير فيه قبل سنة.

كانت روسيا حتى شباط 2022م تقدم نفسها للعالم بأنها قطب عالمي جديد، وأنها ستعيد التوازن إلى العلاقات الدولية بعد عقود من الهيمنة الأميركية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. ومن يتذكر الأمر العسكري الذي وقعه وزير الدفاع الروسي قبل بداية الغزو، والذي يحدد مواعيد المراحل التي ستمر بها القوات الروسية في طريقها إلى كييف، يدرك أن روسيا لم تكن تعرف حجمها الطبيعي، بحيث يصح فيها قول الشاعر العربي: كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد، فقد كان الأمر العسكري ينص على أن تبدأ حفلة النصر في دار الأوبرا بكييف عند الساعة السادسة مساء اليوم الأول للهجوم.

أمام عجز ترسانتها العسكرية، وانهيار مخزونها من الأسلحة، بدأت روسيا باستيراد الطائرات المسيرة من إيران والذخيرة من كوريا الشمالية

 ولكن ما حدث أعاد روسيا إلى حجمها الطبيعي، بوصفها دولة ريعية عاجزة أمام التقدم التقني الغربي، دولة تعتمد على الثروات الطبيعية، وكل ما تمتلكه على الصعيد العالمي هو سلاح نووي وحق النقض في مجلس الأمن الدولي. بعد عام مضى، تراجع الطموح الروسي ولديه الآن هم وحيد فيما يبدو هو تجميد الصراع وحصره في مناطق معينة، بعد أن كانت الغاية هي الهيمنة على كامل أوكرانيا. وأمام عجز ترسانتها العسكرية، وانهيار مخزونها من الأسلحة، بدأت روسيا باستيراد الطائرات المسيرة من إيران والذخيرة من كوريا الشمالية، أما في الجانب البشري فقد بدأت بالاستعانة بمرتزقة فاغنر للتغطية على عجز جيشها وتعويض القوة البشرية بسبب الخسائر البشرية الفادحة.

المعضلة التي تمر بها إيران لا تقل عن معضلة روسيا، وإن كانت من نوع مختلف. قبل سنة تقريبا، كانت إيران على مقربة من إعادة توقيع الاتفاق النووي مجددا، وكان المأمول أن يحيي الاتفاق التفاهمات الأميركية الإيرانية في الإقليم، وأن يمنح إيران الأموال اللازمة لاستكمال مشروعها التوسعي في المنطقة العربية. ونظرا للخدمات التي قدمتها إيران للقوى الغربية في المنطقة، فقد تشددت في شروط إحياء ذلك الاتفاق، ولكن إيران أخطات في معرفة دورها في الإقليم، فقد كانت تظن أنها لم تعد أداة بل أصبحت شريكا رئيسا في صياغة مستقبل المنطقة العربية. وهذا ما أسفر عن توقف المفاوضات حول الاتفاق النووي، مع ما يعنيه ذلك من استمرار للعقوبات التي نتج عنها ارتفاع نسبة التضخم وانهيار قيمة العملة المحلية.

مع أن انتفاضة الحجاب في إيران تراجع زخمها بسبب القبضة الأمنية الرهيبة للنظام، فإنها كشفت عن خلل كبير في إيران، ولا سيما في ظل تكلس النظام وظهور أجيال جديدة غير مؤدلجة، تبحث عن الحدود الدنيا للعيش الكريم: التعليم والصحة والعمل والسكن. لقد بدا النظام أيضا منخورا من الداخل، متهالكا، عاجزا عن تحقيق متطلبات شعبه، وذلك بعد عقود من تبديد الثروة الوطنية على مشاريع طائفية عابرة للحدود، لم يستفد منها المواطن الإيراني أي مردود، بل كان همهما إرضاء الكهنوت الديني في مشروعه الطائفي التوسعي في المنطقة العربية.

في ظل هذا الوضع الداخلي المأزوم، وجهت أميركا ضربة أخرى للاقتصاد الإيراني عبر البوابة العراقية هذه المرة. لقد كانت إيران تحتال على العقوبات الدولية المفروضة عليها من خلال عدة قنوات من أهمها القناة العراقية، حيث كان العراق ينزف يوميا مئات الملايين من الدولارات تذهب عبر  الأبواب الخلفية إلى إيران. وبكل تأكيد، لم يكن هذا التحايل على العقوبات خافيا على الإدارة الأميركية التي كانت تغض الطرف عن عمليات التهريب لأسباب تخص الدور الوظيفي الذي تقوم به إيران في المنطقة. ولكن هذه البوابة أغلقت في الأشهر الماضية حين وضعت وزارة الخزانة الأميركية العراق تحت المجهر، وأوجدت آلية جديدة لعمليات لمراقبة عمليات بيع الدولار والجهات التي يذهب إليها. وهو ما أسهم في ازدياد المعضلة الإيرانية الاقتصادية.

من الواضح أن عقابيل الزلزال على المستوى الاستراتيجي، وخصوصا الحضور التركي في الملف السوري، ستكون مماثلة للعقابيل التي تركها الغزو الروسي لأوكرانيا

كانت تركيا حتى السادس من شهر شباط الماضي أقل دول أستانا الثلاث تأزما في تعاملها مع الملف السوري، لأسباب تتصل بالقرب الجغرافي والتداخل الديمغرافي وحجم المصالح المشتركة بين الشعبين، هذا على الرغم من كل الأخطاء التي ارتكبتها تركيا في تعاطيها مع الملف السوري. ولكن الزلزال قلب الأمور رأسا على عقب، فعلى خلاف معضلتي روسيا وإيران، وهما أزمتان تسببت بهما الأخطاء السياسية والاستراتيجية لكل من روسيا وإيران، وأدتا إلى تفاقم المعضلات التي تواجهها الدولتان، فإن الكارثة الطبيعية هي التي ألحقت تركيا بركب دول أستانا. ومن الواضح أن عقابيل الزلزال على المستوى الاستراتيجي، وخصوصا الحضور التركي في الملف السوري، ستكون مماثلة للعقابيل التي تركها الغزو الروسي لأوكرانيا على وضعها في سوريا، والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية الواسعة التي تعانيها إيران، والتي سيكون لها تأثير في حضورها على الساحة السورية.

في ظل دوامة المعضلات التي تواجهها الدول الثلاث، والتي لا يبدو أنها ستخرج منها في المدى المنظور، فإنها ستضطر لتقديم تنازلات في الملف السوري، وهو ما يبدو أن الدول العربية أدركته فسارعت إلى محاولة الاتصال بالنظام.

للرئيس التركي السابق، سليمان ديميرل، مقولة يذكر فيها أن أربعا وعشرين ساعة زمن طويل في عالم السياسة، إذ لا يمكن أن يخمن المرء ما يجري خلالها من أحداث. لا أعرف السياق التاريخي الذي دعا الرئيس التركي إلى إطلاق تلك المقولة، ولكن من الواضح أن سنة كاملة في عالمنا المتغير بسرعة البرق تعادل سنوات طويلة في أزمنة أخرى كانت أحداث العالم فيها تسير بخطى طفل يتعلم المشي للتو.