في مديح المجاعة

2022.05.05 | 06:59 دمشق

2018-05-21t163928z_923413743_rc1fffd7a270_rtrmadp_3_mideast-crisis-syria.jpg
+A
حجم الخط
-A

تحتفظ الذاكرة السورية المعاصرة ببقايا موروث شفوي عن المجاعة التي ضربت منطقة بلاد الشام في أثناء الحرب العالمية الأولى. كان ذلك حين جندت الدولة العثمانية كل الرجال القادرين على حمل السلاح بعد دخولها الحرب، فلم يبق من يقوم على استصلاح الأرض وزراعتها، الأمر الذي أسفر عن انهيار القطاع الزراعي.

 لكن السرديات التي تشكلت حول هذه الحادثة نظرت إليها من زاوية إيديولوجية، فجرى تصوير الأزمة في المرحلة العثمانية من زاوية قومية عربية، بحيث غابت صور المعاناة في مقابل حضور صور الصراع القومي. أما أزمة القمح في الحرب العالمية الثانية التي شهدتها بلادنا فكانت أزمة عابرة تقريبا.

وإذا استثنينا هذه الحالة، فإن الذاكرة السورية لا تختزن أيَّ مرويات عن الجوع، لا بل إن الصور التي حاولت الدراما رسمها خففت من بؤس حالة الجوع التي كان الناس يعيشونها في أثناء الحرب العالمية الأولى، ليس حبا من قبل منتجي الدراما ومخرجيها بالدولة العثمانية طبعا، ولكنه جانب من عزة النفس الإنسانية أو هو الخوف من العار أن يقال إن السوري أو العربي قد جاع في يوم ما. ولهذا مثلا تحتفظ كتب الأدب بأحاديث وأشعار تحث على الكرم وتصور حاجة الناس إلى الطعام، ولكنها لا تذكر قصص الجوع المرافقة لها.

كان التصريح بالحاجة يحمل فيما مضى شعورا بالنقص والمهانة، أو قد يجلب لصاحبه العار،  ولكننا بدأنا نلاحظ على صفحات التواصل الاجتماعي -ولا سيما في الداخل السوري- أن الناس لم تعد تجد حرجا من التصريح بجوعها: امرأة تترك وليدها على مدخل دار الأيتام، مؤكدة في رسالة مرفقة أنها عاجزة عن إطعامه، طالب في المدينة الجامعية بحلب يكتب على صفحات التواصل الاجتماعي أنه لا يملك ثمن الطعام، ويطلب أن يدعوه أحدهم لتناول الإفطار، عضو قيادة قطرية في حزب البعث يصرح في لقاء إذاعي أنه يعيش من وراء تحويلات ابنه في بلاد المغترب، إعلامي يطلب من الناس الصبر والتأسي بأجدادنا الجاهليين الذين كانوا لا يجدون ما يأكلونه، فيضطرون إلى أكل الحشرات.

هذا ما يمكن أن يلتقطه المرء من متابعة سريعة لما تزخر به وسائل إعلام النظام وصفحات التواصل الاجتماعي التابعة له، ولكن هذا كله رأس جبل الجليد كما يقال، فالجوع هو نتيجة لسياسات النظام في التهجير وقصف القرى والمناطق الزراعية، وتدمير شبه الدولة الذي كان قائما، والذي أدى إلى عجزها الكلي عن أداء واجباتها المحدودة التي كانت تقوم بها نحو مواطنيها. فقد انهارت كل الخدمات كالكهرباء والماء وغيرها، وبحسب مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة، جويس مسويا، فإن أكثر من 14 مليون سوري سيعتمدون على المساعدة هذا العام، بزيادة تبلغ 9 في المئة عن عام 2021، و32 في المئة عن عام 2020.

كان التصريح بالحاجة يحمل فيما مضى شعورا بالنقص والمهانة، أو قد يجلب لصاحبه العار،  ولكننا بدأنا نلاحظ على صفحات التواصل الاجتماعي -ولاسيما في الداخل السوري- أن الناس لم تعد تجد حرجا من التصريح بجوعها

في المرحلة الأولى من عمر الثورة، كانت إحدى وسائل النظام في مواجهة الثورة لدى جمهوره مديح الأمن الغذائي، على اعتبار أنه لا أحد في سوريا ينام جائعا، وأنها أم الفقير، حيث يجد الجميع على اختلاف مستوياتهم حاجاتهم الأساسية من الطعام، ثم اختفى هذا الخطاب في سنوات الحرب التي خصَّصها النظام للتربية على الإبادة وتقبّل سياسات التهجير والقتل.  

بعد تراجع الأعمال العسكرية اختلفت لغة الخطاب الإعلامي. لقد تغيرت هذه اللغة في السنوات الماضية، مع انكشاف عِظَمِ الكارثة التي سببها النظام لمواليه، لا على مستوى الخسائر البشرية وإنما على المستوى الاقتصادي. وقد تبنت التغطية الإعلامية للنظام استراتيجيتين، تركز أولاهما على الاعتراف بالأزمات المعيشية، وعلى استعراض مظاهر الفقر ونقص الخدمات، وهذه الاستراتيجية تنطوي ضمنيا على القول: نحن نشعر بمعاناتك، ولكننا عاجزون عن القيام بأي شيء للتخفيف منها. أما الاستراتيجية الثانية فكانت تمنح الأمل بالمستقبل، وتؤمل مُوالي النظام أن العالم كله سيقبل بالانتصار الأسدي، وسيأتي ليعيد إعمار ما دمره هذا "العالم المتآمر نفسه على بلد وقف في وجه الإرهاب".

لكن العالم لم يأت ليبارك "انتصار الأسد"، على الأقل ليس في المدى المنظور ما يشير إلى مثل هذا التوجه، ولهذا بدأ اليأس يتسلل إلى النظام وأجهزته. لقد كف النظام عن إطلاق الوعود المعسولة التي روج لها من قبل، بمعنى أن الأمل مات في نفسه هو أولا، على الرغم من كل محاولاته ومحاولات الأنظمة التي تشبهه في إعادة تعويمه. وحين يموت الأمل لا يبقى أمام المرء إلا الاعتراف بالواقع الماثل أمامه والتعامل معه. لهذا تحول خطاب النظام من إطلاق الوعود الزائفة، وتربية الأمل الكاذب في نفوس مواليه وشبيحته، إلى التربية على الجوع، واعتباره نتيجة طبيعية من نتائج صمود النظام في وجه العالم كله.

تجول كاميرات صحفيي النظام الأحياء والمناطق، وتنقل على نحو غير مسبوق المعاناة التي يعيشها الناس هناك، والحقيقة أن النظام يتخذ الناس رهائن لديه، وتصوير المعاناة هو جانب من ابتزاز المجتمع الدولي، ولكن هذا المجتمع يبدو غير مكترث بما يجري لدى النظام من مجاعة. قد يقال: إن تصوير الفقر والجوع ينهي صورة النظام في عيون موالاته وأتباعه، وهو تحليل صحيح من حيث المبدأ، ولكنه تفسير يتجاهل ما يحاول النظام زرعه في نفوس أتباعه: لا خلاص لكم أبدا، وعليكم أن تتقبلوا الأمر، فالجوع هو ما يجب أن تعتادوه، أما ما كنتم تمنون أنفسكم به من العودة إلى ما قبل عام 2011، أو حتى إلى الفترة بين عامي 2011-2014، فهذا أمر يفوق قدرة النظام.

لا قعر لانحطاط النظام السوري، فهذا نظام بلا مبدأ أخلاقي، ولهذا فهو مستعد للوصول إلى مستويات لم تسبقه إليها أعتى أنظمة الإجرام. فوحشية النظام في السنوات الماضية أفقدت لدينا القدرة على الدهشة إزاء أي جريمة يمكن أن تصدر عنه، ولن نستغرب في سياق انهيار النظام اقتصاديا أن نعثر في قادم الأيام على دراما وأغان وبرامج تلفزيونية تمدح الجوع وتروج له بين السوريين.

حين رفع النظام شعار الجوع أو الركوع على مداخل الأحياء الثائرة التي حاصرها في حمص وريف دمشق ودرعا وغيرها، لم يتخيل أحد من جمهوره أن هذا الشعار سيصل إلى عصبة النظام ومواليه. لكن مكر التاريخ لا يرحم أبدا، فقد أصبح الجوع شعار النظام في مرحلته الجديدة، مرحلة لا نعلم إلى أين ستقوده في المستقبل. ما الشعار  الذي سيرفعه في قابل الأيام؟