في مؤتمر "جود" ودلالاته

2021.04.01 | 06:32 دمشق

hsn-1.jpeg
+A
حجم الخط
-A

أثار ضجيج مؤتمر "جود" (الجبهة الوطنية الديمقراطية) الذي كان سيُعقد يوم السبت الماضي الواقع في 27 آذار 2021 في العاصمة السورية دمشق الكثير من الدهشة والاستغراب والتساؤل في إطار طبيعة النظام وسقف شعارات المؤتمر.. وتضم "جود" نحو 18 تجمعاً وحزباً سياسياً وكيانات تحالفية عربية وكردية وتركمانية وانتماء لأديان وطوائف مختلفة، بقيادة "هيئة التنسيق الوطنية"، وذهبت التعليقات في اتجاهات شتى بين السماح والرفض أو سوء النوايا وحسنها، وبين الإشادة والتخوين، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان بدايات محاولات تكوين جسم واحد للمعارضة منذ أوائل العام 2011 والتباينات التي حصلت بين معارضة داخلية وخارجية! وفي وثيقة المؤتمر، كما أوضح السيد حسن عبد العظيم أن المؤتمر يرفض إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، لأنها تقطع الطريق على الحل السياسي الذي تحدده القرارات الأممية، وأن النظام عاجز عن تلبية مطالب واحتياجات الشعب السوري..

رهانات وتكهنات

ومن سوء النوايا أن هذا المؤتمر يمكن أن يفسح في المجال للنظام كي يستثمر فيه إذ رأى بعضهم أن السماح بعقد المؤتمر في دمشق سوف يؤكد ما يقوله النظام عن نفسه بأنه "علماني" و"ديمقراطي"، وبخاصة في هذه الظروف التي لا يزال النظام يعاني خلالها عزلة دولية! وأنَّ محاولات روسية حثيثة تجري لتبييض صفحته من فضائح جرائم (مصنفة ضد الإنسانية) كان قد أعانه عليها الروس والإيرانيون.. وأنه سوف يستغل ذلك سياسياً وإعلامياً، في الترويج للمؤامرة الكونية التي قال بها منذ البداية مبرراً مواجهة المتظاهرين بالرصاص الحي وسوف يعلن أنَّ في سورية معارضة فعلية، أما من قتَلهم وقاتلَهم فهم الإرهابيون والمتطرفون الإسلاميون الذين جاؤوا من أنحاء الدنيا لإسقاط نظام العلمانية والمقاومة..

حقيقة النظام وطبيعته

تأبى الحقيقة إلا أن تتجلى في أوضح صورها.. فقد كذَّب النظام تلك الرهانات والتكهنات، ولم يستطع الخروج من جلده الاستبدادي، فبدا على حقيقته، تماماً كما وصف عبد الرحمن الكواكبي "أشد مراتب الاستبداد التي يُتعوذ بها من الشيطان" إذ قال: "إنها حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية"، وإن كان في مثل حالنا السورية، (حائز على تجار دين ودنيا). فكيف لنظام يزعم بأنه انتصر على الإرهاب - والمعارضة، في توصيفه، -كلُّها إرهاب - أن يسمح بعقد مؤتمر لها، حتى وإن كانت معارضة ما يسمى "الداخل" وتنعت غالباً بـ "الوطنية"، فكيف يسمح بمؤتمر تأسيسي لها، في وقت يعاني فيه المواطن السوري مهانة الحصول على أبسط ضرورات عيشه، ما قد يسمح لذلك المؤتمر أن يكون نقطة جذب لآخرين في الداخل ممن يعبِّرون عن رأيهم بنوع من الاستحياء.. ألا يخشى النظام أن يساهم المؤتمر في جعل هؤلاء يرفعون الصوت – وقد بدأ بعضهم فعلاً بسبب شدة الضائقة – أو ربما أخذوا بتشكيل معارضة جديدة بين صفوف الموالاة أنفسهم هؤلاء الذين اكتشفوا، وإن متأخرين، حقيقة النظام لا لجهة الحال الاجتماعية البائسة التي يعيشونها فقط، ولا بسبب ما يقابلها من موجة جديدة من القطط السمان التي جعلت مخلوف وحمشو وشاليش وراء ظهرها بمسافات طويلة، وفي زمن يعدُّ قصيراً جداً.. بل لجهة فضح حقيقة شعار المقاومة الذي عاش عليه الأسد سنين طويلة.. ومن هذا وذاك أخذ الكثيرون يتساءلون، بما عرفوه عن النظام، كيف سيسمح فعلاً لهذه المعارضة التي هي، في المجمل، تبدو علمانية، وتنادي بالديمقراطية التي فيها نوع من المزايدة على "ديمقراطية" و"علمانية" يزعمهما النظام؟! ثم كيف له أنْ يسمح دون أن يستأذن المعنيين "لجنة شؤون الأحزاب" من جهاتها المختصة. (الأمن) ثم ما الذي يجعل النظام يقبل بذلك، وهو الذي قتل مئات الألوف من أبناء هذا الوطن لأنهم خرجوا عليه مطالبين إياه بإجراء بعض الإصلاحات، ثم ليهجِّر الملايين، لدى شعوره بخطر اهتزاز كرسيه، بعد هدم بيوتهم فوق رؤوسهم، وليدمِّر وطناً كان منارة تزهو على منطقة الشرق الأوسط كلها، قبل أن يأتي حافظ الأسد ليستولي عليه بانقلاب عسكري، ثم ليأسره وأهله ثلاثين سنة محوِّلاً إياه إلى مزرعة خاصة له ولأسرته، ولمن يحمي سلطانه، ويضرب بسيفه.. ولم يكن الأمر لدى الوريث بعد وفاة أبيه بأفضل مما كان.. فقد تردى الوضع الاقتصادي أكثر فأكثر، وارتفعت وتائر الفساد إذ أطلق الوريث اليد لابن خاله ليشارك الدولة في ممتلكاتها، ومنافذ وارداتها، ولترتفع عندئذ وتائر القمع، فيوضع بعض الشباب السوريين ممن تطلّعوا نحو مستقبل أفضل لسورية وللسوريين في السجون والمعتقلات، ومن بين هؤلاء عضوا مجلس الشعب رياض سيف ومأمون الحمصي إذ تحدَّثا عن الفساد، وفضحا عقد شركة "سيريتل" وليتبين أن الوريث أسوأ من المورِّث، وخاصة لدى ابتلاعه الوعود بالإصلاح والتحديث، ولتصاب سورية بنكسة أكبر بكثير مما كانت عليه..

رأي لموسكو

لكن سرَّ المؤتمر الأكثر إقناعاً وبعيداً عن كل التكهنات أنه أتى، وبحسب بعض التسريبات، في إطار البحث عن مخرج للاستعصاء السوري، وربما نقطة تحول نحو أفق أوسع للمعارضة، وللروس الذين يلوبون منذ سنوات، وعبر صراع خفيّ يجري خلف الكواليس بينهم وبين الإيرانيين تأميناً لمصالح كل منهما خارج بنود القرار 2254 ووفق تفاهمات تجري تحت عنوانه، فتبقي على بشار الأسد، وإن إلى حين، وتقنع في الوقت نفسه الأمم المتحدة التي أشبعوها اعتراضات منذ 2011 وحتى الآن، ولم تنفعهم إلا في تدمير سورية وقتل السوريين، وكذلك لم تنفعهم "أستانا" ولا "سوتشي" ولا حتى لقاء "الدوحة" الأخير إذ واجهوا القرار ذاته أمامهم، كما واجهوا رفض الدول العربية الفاعلة عودة النظام إلى الجامعة العربية.. والحقيقة أن لا مفر من تطبيق القرار مادامت أمريكا والأوربيون عموماً متمسكين به. وما هو واضح أن لا أحد غير الإيرانيين متمسك بالأسد، فهو وحده من يبقيهم في سورية، وبقاؤهم يعني وجودهم في لبنان.. وما يؤكد أنَّ الروس مع انعقاد مؤتمر "جود" تصريح حسن عبد العظيم "أنَّ بعض الأنباء وصلتهم تُشير إلى امتعاض روسي من تصرف النظام بإلغاء المؤتمر، وأن نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف، كما تناهى إلى سمعهم قد وصفه بالفعل السخيف".

خلاصة ونتيجة

أخيراً يمكن القول: واهمٌ كل من يفكر بأن النظام يمكن أن يفكك دولة القمع بنفسه، وبرضاه، والأكثر وهماً من يعتقد أنه يمكن لسورية أن تذهب إلى حريتها، وتبني ديمقراطيتها، وتبدأ بإعادة الإعمار وجزء من تركيبة النظام لاتزال قائمة.. فما خرَّبه النظام على مدى خمسين سنة على الصعيد الاجتماعي والفكري والنفسي أكبر بكثير مما فعله خلال السنوات العشر الماضية. وقد جاء رفض انعقاد المؤتمر الذي يمثل الجزء الناعم من المعارضة تأكيداً لذلك.. لكنه، وفي الوقت نفسه، تأكيد لزوال النظام حباً أو كرهاً.