في فقه الشوشرة

2021.02.05 | 00:03 دمشق

fco3myusyterjwbrnfhtsducalxhczqfaqbvkqr4.jpeg
+A
حجم الخط
-A

بالرغم من المآلات الموجعة التي ألمّت بالسوريين، فما يزال يراد منهم أن ينساقوا أكثر في تصديق وقبول المزيد من التضليل والتزييف، بل يُراد منهم أن يكونوا أكثر تماهياً مع مأساتهم والممارسات التي تسببت بكوارثهم وفواجعهم. ولعل المؤسف أن هذا التزييف والتضليل لم يكن مبعثه خصمهم المحوري (نظام الأسد)، ذلك أن النظام قد تجاوز، ومنذ زمن بعيد، مرحلة المواربة الأخلاقية، ودخل مرحلة لم يعد فيها بحاجة إلى أن يزيّف ويضلّل أو يواري ممارساته وسلوكه، بل هو يمارس إجرامه علناً وعلى الملأ بحق السوريين، ولا يخجل، بل لا يشعر بأي رادع خلقي أو إنساني حيال إجرامه، لقد مارس الأسد القتل بحق السوريين نهاراً جهاراً، حتى باتت الذاكرة السورية تكتظ بمشاهد المجازر الجماعية التي نفّذها جنود النظام وموالوه وشبيحته منذ الأشهر الأولى لانطلاقة الثورة، ولم يعد التوحّش حالةً طارئة، بل سمةً منهجية متجذّرة ببنية نظام الحكم، ولا حاجة في هذا السياق لتعداد المجازر التي ارتكبها الأسد، فهي موثّقة لدى كثير من الجهات الحقوقية والقانونية ومنظمات حقوق الإنسان.

أضف إلى ذلك، أن غياب الرادع الفعلي الذي من شأنه لجم شهوة الإجرام لدى النظام بات شبه معدوم، لقد بات الروس هم صمام الأمان والحصن المانع لأية مساءلة أو عقاب قد يطول القاتل، سواء من خلال ( الفيتو) الملازم للمندوب الروسي في مجلس الأمن، أو من خلال الترسانة العسكرية الروسية المنتشرة على امتداد الجغرافية السورية.

ألم تقم السلطات الأمنية الأسدية بإبلاغ إدارات السجلّ المدني في العديد من المدن والبلدات السورية بموت الآلاف من السوريين في السجون؟ وهل كان من الممكن القيام بهكذا خطوة لولا الشعور بالأمان من أي مساءلة؟ ألم يفصح بشار الأسد عن استعداده لقتل كل من ليس (متجانساً) معه من السوريين؟ ألم يُشرْ صراحة في قوله: (الأرض لمن يدافع عنها) إلى وجوب طرْد وتهجير جميع السوريين الذين لا يعلنون له الولاء ولا يؤيدون إجرامه؟

بات الروس هم صمام الأمان والحصن المانع لأية مساءلة أو عقاب قد يطول القاتل

ولئن كان على السوريين أن يسلخوا من أعمار أجيالهم نصف قرن حتى يكتشفوا مبلغ الزيف والدجل السلطوي الذي مورس عليهم بشتى الأشكال والألوان، وكان عليهم أيضاً أن يضحّوا بمئات الآلاف من أبنائهم، ويتشرّد الملايين منهم ثمناً ليقظتهم ووثبتهم في وجه غاصبيهم، فهل يتوجّب عليهم اليوم أن يعودوا للركون إلى سرديات جديدة من الزيف والتدجيل؟ وممّن؟ من الذين ساقتهم الأقدار وأتاحت لهم الصدفة أن يقفزوا إلى الواجهة ويتصدّروا المشهد، ويصدّقوا أوهامهم بأنهم قادة شعب وقادة ثورة، فإنْ قال لهم الناس: يا قادتنا الأكارم، أصلحوا بناء بيتكم الداخلي، وانفضوا ما فيه من عفن، وافتحوا نوافذكم للهواء الطلق، لأن النتن المتراكم لا يؤذيكم وحدكم، بل سيقتلنا جميعاً، ردّوا عليهم بالقول: إن دعوتكم تنطوي على رغبة في شق الصفّ وزعزعة التماسك وإثارة الشرذمة والاضطراب في كيانات قوى الثورة، وكأن شدّة التماسك والرصانة في تلك الكيانات هي التي دفعت أربعةً من أعضاء هيئة التفاوض للاستنجاد، بل الاستقواء بالقاتل الروسي، لينصفهم من الجور الذي تلاقيه منصة القاهرة من تغوّل الائتلاف وداعميه الإقليميين.

وإذا قيل لهم: لماذا قبلتم بأن تُدخِلوا بذور الوباء إلى مؤسسات الثورة، لنرى تلك البذور بعد فترة من الزمن استطالت واشتد عودها، وبدأت تشكّل نواة لبؤرة من الوباء الكبير داخل كيانات الثورة؟ ردّوا بالقول: يجب ألّا نكون إقصائيين، ويجب أن تكون كياناتنا مظلة للجميع، لنقطع الطريق على الأطراف الدولية التي تتذرّع دائما بتشتت المعارضة، فقيل لهم: حتى لو كان الوافد إليكم (قدري جميل)؟ قالوا: نعم، وبأوامر من (لافروف)، لا يمكن رفضها، وقيل لهم آنذاك: لماذا لديكم القدرة الهائلة والعجيبة التي تمكّنكم من عدم الاستجابة، والتطنيش الكامل لأي مطلب شعبي سوري، بينما ترضخون أمام القاتل الروسي وتنفذون أوامره بصمت صاغرين ؟ قالوا: هذه سياسة، لا تُتاح لغير المختصين المحترفين الذين تدرّبوا في كنف الكيانات الرسمية للمعارضة منذ العام 2012 وحتى الآن، ونحن أقدر على تقدير المصلحة الوطنية، وليس الغوغاء أمثالكم.

وقيل لهم أيضاً: يا فقهاءنا المبجّلين، بشار الأسد خبيث ماكرٌ لئيم، وسيشاغلكم بيد، ويقتلنا باليد الأخرى، وكان إصراركم عجيباً على تجميل وتلميع صورة بشار من خلال إقراركم بجدّية الجلسات الأربع مع شبّيحته في جنيف، علماً أنها جلسات لم تعقبها سوى حسرات السوريين على خيبتهم وتفاهتكم بآن معاً.

والآن ، وكما من قبل، يعيد عليكم السوريون سؤالهم القديم الجديد: لم اختزلتم قضيتنا بدستور مُفترض، وجوده كعدمه في ظل نظام الأسد؟ وفرّطتم بحقوقنا التي أقرتها المرجعيات الأممية بفضل تضحيات أبنائنا ودمائهم التي ساحت على امتداد الجغرافية السورية؟ في الوقت الذي تمنّى فيه كثير من السوريين لو أن هذه التنازلات كان يقابلها الإفراج عن بضع مئات من المعتقلات والمعتقلين فقط، أو عودة العشرات فقط من النازحين إلى بيوتهم، ستقولون، وكما قلتم سابقاً: لا وألف لا، لم ولن نتنازل، ونحن مقبلون على التفاوض حول أمور أكثر جوهرية، ( إنشاء هيئة حكم انتقالي ....إلخ )، يبدو أنكم مصرّون على الاستخفاف بعقولنا، أو ربما استغبائنا، أو لا خيار لكم سوى اتباع القاعدة التي تقول: اكذب اكذب حتى يصدّقك الآخرون، إلّا أن الحقيقة التي لا يمكن نكرانها، هي أنكم تلاميذ أوفياء، وحفّاظٌ نجباء لأدبيات السياسة الأسدية طيلة نصف قرن، والتي أنتجت ضرباً بديعاً من فنون الخطاب، (خطاب الممانعة) الذي لا يمكن اختزال فاعليته في طابعه اللفظي المخادع فحسب، بل بمضمونه الزاخر بفلسفة الوضاعة والانبطاح أيضاً.

يا قادتنا الفطاحل: لعله بات من المعلوم أن ردّكم على هذا الكلام لن يختلف عن ردودكم السابقة، والتي لا ترى في أي كلام يمسّ سلوككم السياسي سوى على أنه نوع من الشوشرة، أو هو ضربٌ من الشعبوية الوضيعة، أو هو جزء من المؤامرة التي تستهدف صمودكم، بل ربما رأيتم أن من يقف وراءها هو نظام الأسد بهدف النيل من تماسك قوى الثورة، وفي أحسن الأحوال ربما يكون – من وجهة نظركم – محاولة لحرْف مسار المعركة عن سمتها الصحيح، وإشعال معارك بينية، بين قوى الثورة، وتجاهل المعركة المصيرية مع نظام الأسد، وبالنتيجة نجد أن المرجعية الأم لهكذا ردود هي الخطاب الذي حاول آل الأسد أن يُرضعوه السوريين، وتنمو عليه عقولهم منذ اليفاعة وحتى الشيخوخة، إنها معركتنا الكبرى (مواجهة الصهيونية والإمبريالية) تلك المواجهة الزائفة التي أخفت تحتها لحافها كل علائم الدمار والخراب، وأي معركة دونها أو سواها لن تخدم إلّا الأعداء.

فيا قادتنا الأجلّاء: حرصكم على مستقبلنا يقتلنا قبل أن نرى ذلك المستقبل، وإصراركم على استغبائنا يزيدنا إذلالاً، فخذوا صمودكم وبطولاتكم وكل إرثكم النضالي معكم وتخلّلوا عن قوامتكم علينا، كي تتقوا شوشرتنا.