في عامها العاشر.. هل سنحاسب على خروجنا في ثورة ضد الأسد؟

2021.03.15 | 05:40 دمشق

2011-12-17t120000z_1849013327_gm1e7ch1hxn01_rtrmadp_3_syria.jpg
+A
حجم الخط
-A

أعادتني قضيتا إياد غريب ومجدي نعمة إلى ماض كنت أحاول الفرار منه في سنواتي الأخيرة، هناك في إحدى البراري الوعرة في جبل الزاوية، حيث ترتفع الصخور وتتشابك الأشجار، كنت قد اتخذت مع مجموعة من شباب المنطقة مخبأ لنا هرباً من بطش الأسد وجيشه الباسل، الذي اقتحم قريتنا بعشرات الدبابات والجنود والرشاشات والأسلحة الخفيفة والثقيلة، بحثا عن "العصابات الإرهابية"...!

وتلك العصابات كانت تتمثل في مخيلتي بأشخاص ذوي لحى طويلة، ومعهم أسلحة فتاكة وقد اعتادوا السكن في الجبال، ويطلق عليهم زورا وبهتانا اسم "المجاهدين"، ولكني لم أكن أعلم أنها أضغاث أحلام، وأن الإرهابيين الذين كان يبحث عنهم الأسد هم أنا والشباب الذين معي ومن شابهنا وقرروا الخروج على إرهاب الأسد وإجرامه، وأن أولئك الإرهابيين الذين نعرفهم كانوا الوجه الآخر الذي أكمل ما عجز النظام عنه.

ولعلي اليوم أدهش عندما أعلم أن تلك الأحداث جميعها كانت مراحل متتابعة من ثورة أشعلها الظلم والاضطهاد.. ثورة لم نعرف في انطلاقتها الأولى شيئا من تلك المفردات، ولم يكن لنا فيها غاية أو هدف من تلك الأهداف والغايات التي أصبحت باعث سخط لي وأنا أسمع أحدهم يحاضر بها أمامي ولعله لم يعرف الثورة إلا في سنواتها الأربع الأخيرة.

اليوم وفي ذكرى الثورة العاشرة لم يبق مجالا للشك في أنها لم تكن للحظة ضد نظام الأسد، على عكس توقعاتنا التي وصلنا إليها في أماكن اختفائنا ونحن نستعرض واقعنا ونبحث عن أحاديث نمضي بها أيام نهارنا الطويلة التي ما كادت تنقضي، والحديث كان في مجمله منصبا حول ما نحن فيه فلم يكن بيننا من يستطيع التكلم بشكل مباشر، ولا أعلم لماذا كانت الأسئلة كلها تتجه نحوي فقد كان ذلك يشعرني بنوع من القلق والخوف ولا سيما أن الجميع كان يعتقد أنني أعرف كل شيء بحكم أنني صحفي فكنت لا بد أن أتعرض في اليوم أكثر من مرة للسؤال وماذا بعد؟ والحقيقة أني لم أكن أعرف زيادة عما يعرفه الآخرون..
فأن تكون صحفياً في دولة البعث لا يعني أبدا أن تكون ذا اطلاع، بل جل ما يمكن لك أن تعرفه إنجازات القائد والخط السياسي لتوجه الحزب الحاكم، وهذا يعني أنك ستعرف شيئاً عن المقاومة والممانعة وعن رموزها وأركانها، ولن يخلو الأمر من حفظ بعض خطابات القائد الأوحد وإنجازاته الحضارية في قمع معارضيه..

 فإذن ماذا عساي في ظل هذا الواقع أن أجيب؟

الإجابات التي كنت أطلقها لم تكن إلا أمنياتي ليس إلا ورغبتي التي دفعتني للخروج في الثورة منذ صيحتها الأولى

 كان لا بد لي من محاولة استشراف مستقبل فيه شيء من الأمل والسعادة، قائلا إننا في خروجنا ضد نظام الأسد حققنا انتصارا مُعظما وإننا اليوم صناع تاريخ حقيقي، وإننا على ما نحن فيه من خوف وهرب وربما موت في أية لحظة أو اعتقال، إلا أننا صنعنا ما يعجز الجميع عنه، وإن الثورة ما إن تتسع رقعتها ويزداد زخمها حتى ينتهي نظام الأسد إلى غير رجعة، ويكون بمقدورنا محاسبة هذا النظام المجرم وأركانه ورموزه على الجرائم التي لا تعد ولا تحصى بحق السوريين منذ اغتصابهم السلطة في سوريا، والحق إن الإجابات التي كنت أطلقها لم تكن إلا أمنياتي ليس إلا ورغبتي التي دفعتني للخروج في الثورة منذ صيحتها الأولى، ولكنني كنت أخشى أن تلك الأمنيات لن تتحقق أو لن يكون من السهولة تحققها، ولا سيما عندما أسترجع أحاديث عائلتي المغلقة والمعتقلين منهم بتهمة الإخوان المسلمين جدي وأعمامي وأقاربي الذين أمضوا أعواما وأعواما في سجون الأسد عقب أحداث الثمانينيات.

والوقوف اليوم على قضية مجدي نعمة وإياد غريب لا يعني إطلاقا الدفاع عن الجناة ولا يعني أبدا أن الثورة تبيح لأحد سفك الدماء أو ارتكاب الجرائم، لكن ما تحمل تلك القضيتان من أبعاد سياسية يشعرني بالقلق والخوف مجددا، فلا يمكن أن يُفهم إلا أنه محاكمة الضحية، سواء كان الغريب أو نعمة فالأول كان انشقاقه بارقة أمل لا يمكن لمن فاتته أشهر الثورة الأولى أن يدرك أهميتها ففي الوقت الذي كان فيه الناس يتنفسون الصعداء ويعيشون حالة من التشتت كانت كل عملية انشقاق على صغرها بمثابة باعث لروح الثورة في النفوس، وربما لولا الانشقاقات التي شهدتها قوات النظام في تلك المرحلة لما كان من الممكن الاستمرار بالثورة حتى هذا اليوم، ومن جانب آخر فليس من السهولة بمكان شرح ما يعنيه انشقاق ضابط أو عنصر من قوات النظام، إنه كان يعني المخاطرة لأبعد حد والتعرض للموت والتنكيل والقتل والقمع بأشد الوسائل وحشية هو وكل من يمت له بصلة.

وأما حالة مجدي فهي الرهان الواضح أمام العدالة الدولية التي رسمت موقف تلك الدول وأوضحت أن المجتمع الدولي اختار الأسد، إذا كيف يمكن لسوري أن يحاكم في فرنسا بتهمة جرائم الحرب أو جرائم ضد الإنسانية وأن تكون محاكمته في سبيل العدالة وما يزال رفعت الأسد منذ ثلاثين عاما والابتسامة لم تفارق وجهه يعيش في فرنسا بتاريخ حافل بالقتل والإجرام والإرهاب وغيره كثير من أركان النظام ورموزه.

متى سنصل إلى اليوم الذي نحاكم فيه نظام الأسد وأركانه ورموزه؟

وتلك المقارنة الخاسرة تبدو اليوم كل ما بقي لثائر لم يحد عن درب الثورة... الماضي والحاضر وما بينهما، فقد كان هروبنا في ذلك اليوم تائها ومشتتا لا يتبدى لنا شيء من معالمه، في حين أن هروبنا اليوم بعد عشرة أعوام من التضحية والثورة واضح المعالم ومليء بالخيبة واليأس، لم نكن نعلم كيف وإلى أين ولا متى ستكون النهاية، كل ما نعرفه أننا كنا نشعل فتيل ثورة لم يعرف العصر الحديث أعظم منها، وأن سوريا لن تكون مزرعة بعد اليوم، وأن الأسد لن يحكم إلى الأبد، وأما اليوم فالواضح فقط أننا وبلادنا ضحية لمطامع دول تحمل شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان في العلن وتتفنن بوسائل القتل والتشريد والتنكيل بعيدا عن الأعين، وأننا أيضا ضحية لعقلية الاتهام والتخوين والواسطة والمحسوبيات وحب الذات وما تنطوي عليه نفوسنا من عقد نقص يحاول كل منا ملأها على حساب الثورة والوطن.

كنت في أوقات خلوتي وما أكثرها لا يغادرني سؤال طالما ألح علي... متى سنصل إلى اليوم الذي نحاكم فيه نظام الأسد وأركانه ورموزه؟

 كان سؤالاً صعباً وبدت لي في الأيام اللاحقة أن الإجابة عليه كانت أصعب، فقد كان كل شيء مظلماً حولي ولم أكن أعلم شيئاً عن النهاية التي سأصير إليها مع العصبة الصغيرة من أصحابي الذين كلما حدقت بالنظر إليهم رأيتهم يتقدون ثورة وتجري صيحات الحرية مجرى الدماء منهم، فيتمكن بي الحماس حينذاك وأنتشي فرحا بأن اليوم الذي سنقف فيه بوجه الأسد وزبانيته والقتلة المجرمين من نظامه لنحاسبهم باتت قريبة، غير أني اليوم أعيد الحسرة والحرقة أكتوي أتألم وأبكي... ولا أجد ما يبث بي الحماس والعزيمة فرفاقي الذين كانوا معي في براري إدلب لم تبق منهم إلا صورهم التي احتفظ بها وأخاف حتى النظر إليها بعد أن مضوا بين قتيل أو مفقود أو معتقل في سجون الأسد، وآخرين لا أعلم عنهم أهم أحياء أم أن الموت أراحهم مما يعانيه كثير من الأحياء وتركوني وحيداً يحضرني سؤال واحد أكثر ألماً وأبلغ حسرة وأشد وجعاً، متى سنقف في محاكم العدالة الدولية لنُحاسب على خروجنا في ثورة ضد الأسد؟