في سوريا للدولة دور اقتصادي ودور ناف للاقتصاد

2021.05.29 | 05:27 دمشق

000_1tl6su.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا شك أننا في المجتمع السوري، وربما في الشرق الأوسط عموماً، نعاني من مشكلة كبيرة في قدرتنا على التحاور من مختلف منطلقاتنا الفكرية. هذه القدرة على الحوار هي ميكانيزم أساسي لتطوير مختلف الأفكار وتحويلها إلى تطبيقات مفيدة تخدم تطور المجتمع للأمام. وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال قديم جديد يحمل بين طياته تحديا كبيرا، يقول: ما هو سر عدم قدرتنا على الحوار البناء؟

إن مساحة مقالة رأي بالتأكيد لا تسمح بتغطية هذه المسألة الشائكة والمعقدة بل المستعصية. ما سنحاول القيام به هو تغطية جانب محدد من المسألة، وهي محاولة التمهيد لحوار بناء في المجال الاقتصادي، وبالتحديد في الجدل حول موضوع ثنائية الدولة والسوق، أو القطاع الخاص والقطاع الخاص في الاقتصاد.

الشرط الأساسي لتبادل الأفكار بين البشر وتحاورهم هو اللغة المشتركة والمفاهيم المشتركة التي تساعدهم على تحديد مساحات الاتفاق والاختلاف. اللغة المشتركة هي الوحيدة القادرة على نقل رؤى وأفكار طرفي الحوار بشكل أمين، لتساعد بعد ذلك على تحديد نقاط الاختلاف والتشابه الحقيقية بين الطرفين تمهيدا لتثبيت نقاط التشابه وإخراجها من الحوار، لأنها ستكون مادة جدل ومماحكة وليس حوار، وتخصيص الجهد من أجل تبادل الأفكار حول نقاط الاختلاف، حيث يكون هناك "جدوى للحوار"، أملاً في تضيق مساحات الاختلاف تلك.

أحياناً يكون هناك اتفاق في التوجه العام ويحصل الخلاف بسبب عدم الاتفاق على المصطلح، وما هي دلالته؟ وماذا يعني تنزيله من النظري إلى الواقعي؟ واعتقد بأن جزءا من إشكالية الحوار هو غياب اللغة المشتركة التي تنتج مفاهيم موحدة للمصطلحات.

في سوريا هناك حالة من التخندق فيما يتعلق بدور السوق والدولة في الاقتصاد. في كثير من الأحيان عندما يتحدث المرء عن أهمية السوق الأساسية (والقطاع الخاص) في اقتصاد المجتمع، ينبري العديد من أنصار تدخل الدولة للدفاع عن دور الدولة وبيان حالات فشل السوق بل كوراثها. وقد يتهم المرء بمحاباة الفئات الغنية وتجاهل فقر الفقراء. في المقابل عندما يتحدث المرء عن الدور الاقتصادي للدولة ربما يثير حساسية كثيرين من أنصار اقتصاد السوق، ويبدؤون بالحديث عن الكوارث التي خلفتها التدخلات الدولية في حالات كثيرة يصعب حصرها.

وغالباً ما يكون هذا الجدل عبثياً وعقيماً، ولا يحقق أي تقدم ناتج عن التفاعل الصحي للأفكار المختلفة. والسبب الأساسي هو خلل في فهم المصطلحات التي تعبر عن هذين الدورين. هذا الخلل قد يكون مقصوداً لغاية معينة من أجل تغليب طرح ما، وقد يقع آخرون ضحية له بسبب قلة المعرفة في هذا المجال. والخلل المتعمد غالباً ما يتوافق مع أهواء السلطة الحاكمة في سوريا، والدول الشبيهة، لأنه يتيح لها أن تفرض رؤاها في هذا المجال.  ففي حالة اختلال المفاهيم تسود التفسيرات التي تتكئ على السلطة والقوة.

من أجل توضيح هذه المسألة أكثر، لا بد لنا في البداية من الإشارة إلى أن هناك ثلاث دوائر أساسية للفعاليات البشرية، هذه الدوائر مستقلة بمنطقها الخاص والفعالية التي تشملها، لكنها في الوقت نفسه متداخلة في بعض الأوجه وتشترط بعضها البعض بما هي كذلك. هذه الدوائر هي دائرة النشاط السياسي وآليته الأساسية هي الدولة، ودائرة النشاط الاجتماعي وآليته الأساسية هي القيم والأخلاق والعادات، ودائرة النشاط الاقتصادي وآليته الأساسية هي السوق. وفي معظم الحالات يؤدي إحلال آلية أي دائرة محل آلية دائرة أخرى إلى نتائج كارثية.

التبادل الحر لن يحدث إن لم تكن هناك حماية قانونية للملكية الخاصة، بل سيقوم القوي بالاستيلاء على ممتلكات الضعيف بدلاً من مبادلتها بمقابل ما

والسوق كآلية لدائرة النشاط الاقتصادي تعني في جوهرها حيزاً للقاء البائعين (المالكين للبضائع- العرض) والمشترين (المالكين للقوة الشرائية أو لبضائع أخرى- الطلب) من أجل التبادل الحر لبضائعهم. ولكي يكون التبادل حراً (أي الحرية الاقتصادية) يجب أن تكون هناك حماية قانونية للملكية الخاصة تجاه الأفراد والسلطة. فالتبادل الحر لن يحدث إن لم تكن هناك حماية قانونية للملكية الخاصة، بل سيقوم القوي بالاستيلاء على ممتلكات الضعيف بدلاً من مبادلتها بمقابل ما.

هذا يعني أن القاعدة العامة في الاقتصاد المدار بآلية السوق ترتكز على الحماية القوية من قبل القانون للملكية الخاصة. ولا يمكن أن يكون هناك قانون يطبق بشكل كامل من دون وجود دولة قانون حقيقية تفرض منظومتها القانونية على الجميع وعلى ذاتها، ومن ثم تحدد قواعد اللعبة الاقتصادية. بهذا المعنى لا يمكننا الحديث عن وجود اقتصاد السوق أصلاً من دون وجود دولة قوية حاضرة بقوة لضبط قواعد اللعبة الاقتصادية، وضبط حالات الشذوذ والتجاوز والفشل التي يعاني منها السوق بالسياسات الاقتصادية.

لكن حضور الدولة كضامن لحقوق الملكية، وراسم لقواعد اللعبة، وضابط لحالات الشذوذ والفشل من خلال السياسات الاقتصادية، يختلف جوهرياً عن حالة ثانية لحضور الدولة في الاقتصاد. وهي إحلال الدولة كآلية للحقل السياسي، جوهرها هو القسر "الشرعي"، محل السوق كآلية للحقل الاقتصادي، جوهرها الحرية الاقتصادية. في هذه الحالة تنتقل ملكية النسبة الغالبة من الأصول الاقتصادية للدولة، أي القطاع العام، وما يبقى في أيدي القطاع الخاص يتحرك بقرارات الدولة، بغض النظر عن مقتضيات منطق السوق. حيث نجد أن الربحية ليست مقياسا لنجاح المشروع والاستثمار ليس مصدر الربح، بل استمرار المشروع هو قرار سياسي حكومي والربح ينشأ عن علاقة خاصة مع السلطة السياسية تنتج امتيازا هو مصدر الربح، الذي هو في الحقيقة ريع سياسي. ويؤدي هذا في المآل الأخير إلى إلغاء الفعالية الاقتصادية المستقلة، لتتحول لفعالية معاشية أوامرية أقرب للـ (إقطاع الشرقي) المحدث، همها توزيع الريوع وتثبيت السلطة السياسية. والنتيجة، وكما ورد في مقولة معروفة هي: "إذا تعاطى الحاكم التجارة فسد الحكم وفسدت التجارة".

يمكن أن نشبه السوق بلعبة كرة القدم التي لا بد لها من قواعد لعبة يديرها حكم. وهذا الحكم هو الدولة، ولا يمكن أن تكون هناك لعبة كرة حقيقية من دون حكم يضبط قواعد اللعبة. لكن إن تحول الحكم إلى لاعب من المؤكد أن اللعبة ستفسد وسيكون الرابح هو الطرف الذي يلعب معه الحكم بغض النظر عن مستوى مهارات كل فريق.

هناك الدور الاقتصادي للدولة وهو موجود في جوهر اقتصاد السوق من خلال ضبط قواعد اللعبة بالقانون والسياسات الاقتصادية

بهذا المعنى يمكن أن نقول إنه حان الوقت لضبط المفاهيم. هناك الدور الاقتصادي للدولة وهو موجود في جوهر اقتصاد السوق من خلال ضبط قواعد اللعبة بالقانون والسياسات الاقتصادية. وطبيعة هذه القواعد وآليات تنفيذها والسياسات الاقتصادية المرافقة تختلف من ظرف لآخر ومن مجتمع لآخر. وهناك دور الدولة "النافي للاقتصاد"، أي الحالة التي تتملك فيها الدولة الأصول الاقتصادية الأساسية، وتسير الفعالية المعاشية بأوامرها المركزية. 

يمكن للمرء أن يكون من أنصار الدور الاقتصادي للدولة أو دور الدولة النافي للاقتصاد. أي أنه عندما يكون المرء من أنصار اقتصاد السوق فهو بالتأكيد مع دور اقتصادي للدولة، ولذلك يجب عدم مجادلته عن أهمية الدور الاقتصادي للدولة فهذا مستبطن في ذلك الخيار تماماً بغض النظر عن أبعاد ذلك الدور. وعندما يتحدث المرء عن دور اقتصادي للدولة لا يجوز تضييع الوقت في اتهامه بمعاداة السوق والحرية الاقتصادية فهما مستبطنان في ذلك. هنا الحوار يمكن أن يدور حول طريقة رسم وضبط قواعد لعبة السوق ونوعية السياسات الاقتصادية ومدى استخدامها. وباعتبار الحديث عن اقتصاد السوق أو دور اقتصادي للدولة هو مختلف جذرياً عن دور الدولة النافي للاقتصاد، والعكس صحيح، هنا مساحة خلاف كبيرة تستحق أن يتم الحوار حولها بصوت عال أو منخفض، ويمكن أن تنتج عنها مساحات تقارب معينة، بشرط أن لا يتم خلطها مع الجدل ضمن الحالة الأولى.