في ذكرى وفاته

2021.06.10 | 06:34 دمشق

ed7d3543-3e27-4041-9c1e-7ed6aef1561e.jpeg
+A
حجم الخط
-A

في العاشر من حزيران سيتعيّن على السوريين أن يقتلعوا خيام الوطن التي أقاموها، ليعبّروا من مضاربها المشبعة بالوطنيّة عن أفراحهم التي لا حدود لها بانتصار السيادة الوطنيّة السّاحق؛ المتمثّل بفوز رئيسهم في مهزلة الانتخابات الأخيرة، لقد كان الناخبون في الزمن الماضي أوفر حظًا من الناخبين في حقبة الأسديّة بلا ريب، ففي أسوأ أحوال الديمقراطيّة كان هناك مكسب ماديّ أو معنويّ يحصلون عليه لقاء أصواتهم، مؤقّت أو دائم، لكن كان هناك مكسبٌ ما، يدفعهم للمشاركة في العمليّة الانتخابيّة، أمّا الآن فما يسوقهم إلى صناديق الاقتراع الرعب وحده؛ الرّعب الذي غرس بذرته الأسد الأب في نفوس السوريين وعلى مفارق حاضرهم ومستقبلهم، وتعهده الابن على أفضل وجه، فكان في هذا الجانب تحديدًا خير خلفٍ لخير سلف.

سينصرفون إلى إقامة خيامٍ من نوعٍ آخر، لكنّها مشبعةٌ بالوفاء أيضًا إلى جانب الوطنيّة؛ يعبّرون فيها عن حزنهم على قائدهم الخالد الذي تحلّ ذكرى وفاته اليوم، وسيحرصون على أن يكون حزنهم مقنعًا كما كان فرحهم مقنعًا ـ بالنسبة إليهم على الأقلّ ـ في مهزلة الانتخابات، سيجتهدون في ابتداع الأفكار المؤثّرة التي تضفي على حزنهم مسحةً من الإقناع، لا نستطيع أن نخمّن إن كان الإنسان يمتلك القدرة على جعل حزنه مؤثّرًا وحارًا بعد إحدى وعشرين سنة من وقوع المصاب الجلل.

يوم أعلنت وفاة القائد...

تتداعى إلى الذاكرة أحداثٌ كثيرة ارتبطت بيوم وفاته، كنّا حينذاك في سنتنا الجامعيّة الأولى، لم يدُر في خلد أحدٍ منّا أن يستيقظ على خبرٍ كهذا، وغالب الظنّ ـ إن لم يكن يقينًا ـ لا أحد من السوريين فكّر في انهيار جدار الأبديّة الذي حُفرت دعاماته عميقًا بالحديد والنار في نفوس أجيالٍ متعاقبة، ربّما كانوا يستبعدون توقيت موته، أو أنّهم لا يستطيعون تخيّل يومٍ تطلع فيها الشمس على البلد والقائد ليس فيها، فالبلد هي الحيّز الذي لا يكتمل إلّا بوجوده؛ البلد برمّته جرمٌ صغيرٌ يدور في فلك السيّد الرئيس.

نعم! مات القائد الخالد!

وكنّا نظنّ أنّ هتافنا باسمه قائدًا لنا للأبد سيحصّنه من الموت، ويبقيه ذخرًا لنا ولأولادنا من بعدنا!

نزل الخبر كصاعقةٍ غير متوقّعة، فلم تكن في الجوّ نذرٌ توحي بذلك، هكذا وبكلّ بساطة ومن دون مقدّمات يغادرنا، كما يغادر أيّ إنسانٍ عاديّ الحياة.

أصيب الجميع بالذهول، كأنّ الطير على رؤوسهم، مصابٌ جللٌ قد أحاق بهم؛ فخسروا ربّانهم وقائدهم الملهم الذي يقود مسيرتهم بحنكةٍ منقطعةِ النظير.. رحل محمّلًا بهرمٍ عظيمٍ من الألقاب التي خلعها السوريون عليه؛ ألقابٌ أكثر من أن تعدّ أو تحصى أبدعها الشعب طوال حياته؛ ليعبّروا عن إعجابهم بقائدهم الديكتاتور الذي لم ينجب الدهر مثله.

ظنّ كثيرون أنّ الخبر ربّما يكون مجرّد إشاعة يُختبر من خلالها الولاء ومنسوب الطاعة لدى الشعب، وما حصل حين تعرّض القائد الخالد لوعكةٍ صحيّةٍ عارضة ـ وإن نسيه الشعب الذي فُطر على النسيان ـ ما يزال حاضرًا في أذهان بطانة القائد وحاشيته؛ لذا فمنسوب الطاعة والولاء يجب أن يوضع على محكّ الاختبار من حينٍ إلى آخر.

صدرت الأوامر في الوحدات السكنية الجامعيّة بخروج الجميع للمشاركة في مسيراتٍ صامتةٍ، ملأت الشوارع والساحات حزنًا على رحيل القائد الخالد الذي تعدّدت ألقابه وصفاته، وكان قاب قوسين أو أدنى من استحقاق الألوهيّة لدى بعض الجماعات؛ لولا الموت الذي قصم ظهر أسطورة حيكت بخيوطٍ من الرّعب الممنهج خلال مسيرة حياته التي امتدت ثلاثة عقود.

قرّرت زميلاتي في الغرفة أن نوصد باب غرفتنا ونحكم إغلاقه علينا، فلمَ عسانا نخرج ونقبل أن نساق كالقطيع لنعبّر عن حزننا غير الموجود أصلًا؟! في تلك اللحظة بالتحديد خطر لزميلةٍ لنا أن تروي نكتةً عن السيّد الرئيس وكأنّ موته قد أخرج للعلن ما لم نكن نجرؤ على التفكير به، فلطالما كان للجدران آذان كما أخبرنا أهلنا منذ الصّغر، والمواطن الصالح هو من "يمشي الحيط الحيط ويطلب الستر" ولا شيء غيره.

في تلك اللحظات التي كنّا نداري فيها ضحكاتٍ مكتومة ونطالب إحدانا أن تسرع إلى إحكام قفل الباب، لئلّا نقع في ورطةٍ ما، دُفع باب غرفتنا بعنفٍ، وأطّلت منه جارةٌ لنا كنا نلقّبها بـ (الطيّوبة) كأنها امتلكت رادارات وحسًّا مخابراتيًّا يلتقط النغمات المعادية مهما كانت خافتة؛ لتصرخ في وجوهنا العارية من أيّ حزن:

ـ "شو نحنا فاقدين ولد صغير حتّى ما نزعل عليه"؟

جارتنا (الطيّوبة) تنتمي إلى الفئة التي يعتبرون القائد ملكيّة خاصّة بهم، يجاهدون على الالتصاق به، بالرغم من أنّهم لم يكونوا يومًا في قائمة اهتماماته وأولوياته.

لم يأخذ ذلك الصدّام مع جارتنا في ذلك اليوم أبعادًا؛ ربّما كان السبب تلك الأحداث المتلاحقة السريعة التي أفضت إلى رسوّ السفينة التي فقدت ربّانها على برّ الأمان بعد أن قيّض الله لمركب السوريين ربّانًا قاصرًا أُعدّ على عجل كما تُعدّ الوجبات السريعة الجاهزة.

في العلن كان الجميع حزينًا يلطم الخدود، لكنّ راداراتنا المضبوطة على نغمة مغايرة لما تتطلّبه اللحظة كانت قادرة على التقاط السرور الخفيّ الذي شاع في نفوس كثيرٍ من الطلّاب العاشقين ـ ومعظم الطلّاب عشّاقُ ـ في تلك الأيّام الثلاثة التي عقبت وفاته، إذ امتدّت لقاءاتهم الغرامية حتى وقتٍ متأخّر، فالطالبات لم يعدْن مضطراتٍ للعودة في الساعة العاشرة مساءً إلى غرفهنّ؛ لأنّ أبواب سكن الطالبات لم تعد تغلق في ذلك التوقيت، ربّما كانت تلك المأثرة أعظم مآثر القائد وأهمّها على الإطلاق بالنسبة لهم..

في ذكرى وفاته الحادية والعشرين؛ سينصرف آلاف السوريين لإيقاد الشموع حدادًا على روحه، الشموع التي باتت جزءًا أصيلًا من حياة السوريين الذين يعيش كلّ واحدٍ منهم حداده الخاصّ، وقسمٌ آخر سينصرف إلى بعث الحكايات البائتة من مراقدها؛ ليؤرّخ ليوم رحيل الديكتاتور الذي لم يغادرنا، حتّى خرج من صلبه طاغيةٌ آخر، تقنّع بهرمٍ من المصطلحات الجديدة:  التطوير والتحديث والشفافيّة، ذلك المصطلح الذي طرق أسماع السوريين للمرّة الأولى حين أشرقت شمس القائد الابن على حياتهم، لكنّه بقضّه وقضيضه ومصطلحاته كلّها لم يكن أكثر من طبق بائت أعيد تسخينه بالعفن الذي فيه على نار وقودها أرواح وأحلام وآمال بلدٍ بكامله؛ حصدتها مناجل الأسديّة من دون أنّ يرفّ لها جفن...

هذي هي باختصار الغلَّة الكاسدة التي جناها السوريون من الحقبة الأسدية التي تزعّمها قادةٌ أسود لما يزيد على نصف قرن؛ تُرى ماذا كان سيحلّ بالسوريين لو أنّهم رجّحوا كفّة ذلك الاحتمال الذي يروّج له الحاقدون والمتآمرون على السيادة الوطنيّة حين يشيعون في الخفاء؛ أنّهم ليسوا أسودًا، وإنّما من فصيلٍ حيوانيّ آخر؟!

كلمات مفتاحية