في ذكرى الجلاء الأول.. متى يأتي الجلاء؟

2021.04.18 | 06:38 دمشق

d8a7d8b3d8aad8b9d8b1d8a7d8b6-d8b9d8b3d983d8b1d98a-d981d98a-d8b9d98ad8af-d8a7d984d8acd984d8a7d8a1-d8a7d984d8b3d988d8b1d98a-d8b9d8a7d985-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

من ذكريات الطنطاوي عن الثورة السورية الأولى والجلاء

لا تقلّ الساحة الفكرية عند السوريين اليوم تزاحماً عن ساحتهم الميدانية عسكرياً واقتصادياً وثقافياً، لكنّ بعض محطات التاريخ السوري تبقى أشبه بالفواصل التي لا يمكن تجاوزها، ولعل ذكرى جلاء الاحتلال الفرنسي عن سوريا في 17 من نيسان من تلك المحطات التاريخية.

وليست أهمية هذه الذكرى الوطنية من شدة شوق السوريين اليوم لجلاء المحتلّين – بالجمع لا بالمفرد – عن بلادهم فحسب؛ وإنما لتقارب الظروف التي نعيشها حالياً مما عاشته بلدنا في تلك الأيام.

ومع التجهيل المتعمّد لعقود بتاريخ سوريا الحديث على يد نظام البعث؛ فإننا لا نعدم شهادات ممن عاصروا الاحتلال الفرنسي والجلاء الأول، ومن أصحاب الأقلام المشهود لهم في الكتابة والتوثيق والإصلاح أديب العلماء وعالم الأدباء علي الطنطاوي؛ فهو يصوّر في كتاباته سوريا تصوير العاشق المحبّ، حينما بدأ حياته برحيل الأتراك عنها، وبدء الحكومة العربية الأولى، ثم مصادرة الاستقلال بدخول الفرنسيين واحتلالهم دمشق، وتستمرّ كاميرا الطنطاوي في تصوير الشام ببراعة حتى كسر الاحتلال وتحقق جلاء الاحتلال الفرنسي.

لم ندرِ أنهم تقاسمونا ونحن نيام، وأن سايكس وبيكو وزّعونا غنائم حرب كما تُوزَّع المواشي التي أخذها الجيش الغالب من الجيش المغلوب

ولا يُفهم الجلاء – وما أشدّ شوقنا إليه اليوم – دون وعي كافٍ بما كان من ملابسات داخلية وخارجية لا تقلّ عما نعيشه اليوم. ولا يقال: ذاك احتلال فرنسي، واليوم نواجه احتلالاً إيرانياً واحتلالاً روسياً واحتلالاً أميركياً؛ ففي السياق ذاته كان في تلك الأيام مَن يفضّل الاحتلال الإنكليزي على الاحتلال الفرنسي، فأجابه الطنطاوي بقصة أعرابي من قدامى العرب وقد سُئل: "أيّ حمارَيك أسوأ من صاحبه؟ قال: هذا؛ وأشار إليهما معاً!" الذكريات: 1/91.

ومن تشابه الحال ما حكاه الطنطاوي عن الاحتلال الفرنسي الأول بقوله (الذكريات: 1/ 276): "ولما عجزت عن مواجهة الحارس الدمشقي في ميدان القتال حاربت البيوت، فهدمت الجدران ودكّت الأركان وأزالت العمران؛ أعادت قصة دون كيشوت مع الطواحين!" 

وأول ما يطالعنا من كلام الطنطاوي قوله (الذكريات: 1/91): "لم ندرِ أنهم تقاسمونا ونحن نيام، وأن سايكس وبيكو وزّعونا غنائم حرب كما تُوزَّع المواشي التي أخذها الجيش الغالب من الجيش المغلوب"؛ ولعله لم يتغيّر اليوم إلا أسماء المقتسمين! دون أن نغفل عن "ونحن نيام"!

وعن حال النيام آنذاك يحكي الطنطاوي فيقول ينتقد التقصير في الإعداد والتخطيط (الذكريات: 1/92): "ظنوا بأن الحرب تُكتسب بالخُطب... وخرجوا بالأهازيج والأناشيد يتسابقون إلى ساحة المعركة. وكان من المتحمّسين القائد الشاب يوسف بك العظمة، شهيد ميسلون وقبره فيها، ولم يستمع أحد لنصح كبار العسكريين كرضا باشا الركابي، وكانوا يظنون أن جماهير ما عندها من أدوات الحرب إلا الحماسة تستطيع أن تردّ جيشاً فرنسياً يقوده جنرال! فكانت الهزيمة المرتقبة بعد قتال قصير، ودُفن الاستقلال وهو لم يتمّ سنّ الرضاعة، وبدأ حكم الأجنبي للشام"؛ فالتقصير في التحصين أسقط مناطق كثيرة وما زال، والحماس وحدَه دون تخطيط أضاع كثيرا من الفرص والدماء في ثورتنا.

ولا يُفهم من ذلك التقليل من شأن الحماس النابع من الإيمان بعدالة قضيتنا وثورتنا، فالطنطاوي نفسه يحكي عن الثوّار ضد الفرنسيين فيقول (الذكريات: 1/273): "كانت تخرج الحملة فيها الدبابات والمصفحات يقودها جنرال أو كولونيل، وفيها الألوف من الجنود، فيردّها عشرات (وإن كثروا فمئات) من الثوّار، سلاحهم البنادق والسيوف، وسلاح آخر أقوى من السيوف والبنادق هو الإيمان؛ لا يسخر أحد من هذا الكلام؛ فإن البندقية مع الإيمان أقوى من المدفع بيد غير المؤمن". وكل مَن عاش الثورة السورية على الأسد وحلفائه يحكي ما لا يُصدّق من شواهد فعل ذلك الإيمان؛ لنصطدم بالتساؤل: فأين الانتصارات وقد تبدّلت الحال وصارت مع الثوّار مصفحات ودبّابات وأسلحة ثقيلة؟! أم تراها توفرت وتناقص الإيمان، حتى قاربْنا مَن ثُرْنا عليه في المظالم؟! يتساءل مواطن سوري جريء.

ومما يدعو للتوقف والتفكّر في كلام الطنطاوي عن مقاومة الفرنسيين قوله (الذكريات: 1/277-278): "استردّ الفرنسيون قلب البلد (دمشق)، وبقيت أطرافها بأيدي الثوّار، وبقينا على هذا سنة وبعض السنة؛ الفرنسيون في داخل البلد والثوّار في أطرافها. يهجم الثوّار فيردّ الجنود من "الاستحكامات"، ثم تخرج الحملة، ثم ترجع مكسورة"؛ ولا أحسب عاقلاً يناقش اليوم خطأ الثوّار السوريين في التمركز داخل المدن وتحمّل عبء المكان والخدمات، ليتجدد التساؤل: فماذا تغيّر في سياسة الثوّار بعد ضياع مراكز الثقل المدني منا وتهجيرنا وحشرنا في جيب واحد في الشمال؟

وفي حديثه عن أسباب الثورة على الفرنسيين ينقل الطنطاوي عن تقرير رسمي لمندوب المفوّض السامي الفرنسي نُشر آنذاك في بيروت، فيقول (الذكريات: 1/282): "أما السبب المباشر فهو جولة الشيخ بدر الدين في مدن سوريا، أي أنها متصلة بنهضة المشايخ التي لم تلقَ من المؤرخين ولا من الباحثين الاجتماعيين العناية التي تستحقها. كانوا إذا شارفوا البلد خرج الناس لاستقبالهم وساروا وراءهم، فيبدؤون بالمسجد، فيعظون ويعلّمون ويحثّون على الجهاد، ويبيّنون أحكامه وحالات وجوبه؛ وكانت هذه الجولة هي الشرارة التي أشعلت الثورة". ولست أنقل كلامه لتنزيله على واقع ثورتنا دفاعاً عن أثر المشايخ؛ وإنما تقريعاً للمشايخ المتمسّكين بذيل الأسد على ضفة من الوطن يسبّحون بحمده، وتنبيهاً للمشايخ الخائفين من النزول إلى الداخل وتحريض الناس وتعليمهم ممن على الضفة الأخرى؛ فذاك ما حقق للمشايخ آنذاك القَبول، وليس البيانات والفتاوى العابرة للحدود والشاشات؛ دون أن نَهوِي مع مَن يهاجمون كل مظهر فيه تديّن بدعوى "خطورة أسلمة الثورة" ولوجود أدعياء الدّين من المتطرّفين، ناسين أو متناسين أننا من بلد غالبية أهله مسلمون محافظون.

ومن بديع ما أثاره الطنطاوي ونبّه عليه بكلامه عن الاحتلال الفرنسي حديثه عما تركوه من الاحتلال الثقافي الناعم، مما لا يزول أثره حتى بعد الجلاء، فقال (الذكريات: 1/291-292): "ألقى المنتدبون ما حملوه من الشوك في طرقنا، ثم لم يكفِهم ذلك حتى أوحى إليهم شياطينهم بما هو أدهى منه وأمرّ وأبلغ في الأذى وفي الضرّ، فألقوا بذوره في أرضنا، فلما نبتَ ملأ بلدنا وأصاب أذى شوكه أبناءَنا وبناتنا؛ فكان هذا الاستعمار الجديد شرّاً من الاستعمار القديم، لأن ذلك يمثّله قوم ليسوا منّا ولا دينهم من ديننا ولا لسانهم من لساننا، وهذا يقوم عليه ويدعمه ويحرسه أبناؤنا. لذلك تجدون في كثير من البلدان أن الذي تمّ بعد جلاء جيوش المستعمرين أشنع وأفظع وأبشع مما كان قبل لما كانوا هم الحاكمين. ولست أدافع عنهم، وكيف وهم الذين غرسوا نبتة الفساد؟ وكيف وفي مدارسهم وعلى مناهجهم سيّروا أبناءَنا وبناتِنا في هذا الطريق؟" وفي هذا تنبيه شديد للسوريين على ما تفعله إيران وروسيا من التغلغل الثقافي في المدارس والجامعات والإعلام؛ لضمان وجود دائم للاحتلال يحقق له مصالحه حتى وإن خرجت قواته من سوريا.

ولا عجب عن الطنطاوي الأديب أن يؤكد أهمية الأدب والشعر خاصة في حفظ الثورة، فيقول (الذكريات 1/301): "الجهادُ جهادٌ بالنفس وجهادٌ بالمال وجهادٌ باللسان، ولئن خاضَ ميدانَ القتال أيام الثورة السورية رجالٌ أبطال بسلاحهم وأيديهم؛ فلقد خاضَه الشعراء بألسنتهم وبقصائدهم، وقد ذهب ما صنع المقاتلون في المعارك ونسيناه وأحصاه الله، وبقي ما قال الشعراء"؛ وفي هذا تحفيز للأدباء السوريين على القول من جهة، وعلى التدوين والكتابة ليُحفظ ويبقى من جهة أخرى؛ فحال ثورتنا اليوم لا تختلف عما حكاه الطنطاوي عن حال الثورة السورية ضد الفرنسيين في قوله (الذكريات: 1/279): "كُتب عن الثورة كثير؛ لكنها لم تُؤرَّخ كما ينبغي"، بل إن ثورتنا لم يُكتب عنها كثير ولا تُؤرخ بعدُ كما ينبغي.

والجلاء المنشود حقّ لا نرجوه من أحد؛ بل نناضل سلماً وحرباً لتحقيقه، كما فعل أجدادنا

ولأننا موقنون بجلاء المحتلّين عن سوريا كما كان جلاء الاحتلال الفرنسي نستحضر قول الطنطاوي (الذكريات: 5/295): "اليوم يوم الجلاء؛ اليوم يبكي رجال منّا من بيع ضمائرهم للأجنبي.. رجال حملتهم الخيانة فوضعتهم على مقاعد العزّ في أبهاء الحكومة فصاروا من كبار الموظفين؛ هؤلاء يبكون، ولكنَّ الشعب كله يضحك اليوم وتضحك معه الدنيا"؛ فلابد من تحقق العدالة الإلهية بنصر المظلومين، ولابد من إحقاقنا العدالة الانتقالية بإنصاف ذويهم وتجريم الظالمين ومَن أعانوهم أياً كانوا.

والجلاء المنشود حقّ لا نرجوه من أحد؛ بل نناضل سلماً وحرباً لتحقيقه، كما فعل أجدادنا (الذكريات: 5/297): "وقد زعم العداة أننا فرحنا به هذا الفرح لأننا أُعطينا ما لم نكن نحلم به؛ إننا لم نأخذ إلا الأقل من حقّنا. زعموا أن هذا الجلاء جاء بلا تعب، ولولا أنها جاءت به مصلحة الإنكليز ما جاء! كذبوا والله. فاسألوا الفرنسيين: هل أرحناهم يوماً واحداً من ميسلون إلى يوم الجلاء؟"

ومما يُختم به على سبيل الرجاء والثقة بالنصر قول الطنطاوي (الذكريات: 1/279): "أحمدُ الله أنْ نصرَ المجاهدين، وآمل أن تعود الحرية ويرجع الخير إلى دمشق ويعمّ بلاد المسلمين".