في خيانة المصطلحات (2)

2021.01.06 | 00:06 دمشق

1_thwrt_lkl_alswryyn_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

هل يعيد التاريخ نفسه؟؟ لطالما لفتت نظرنا الأحداث التي تتكرر بتفاصيلها مع اختلاف الزمن، وإذا كان ذلك حقيقيٌ فعلاً فما الذي نجنيه نحن من هذا التكرار.

قد يكون سبب ذلك على رأي أجدادنا أن الزمن معلمٌ يعيد تكرار نفسه مراراً إلى أن يصل إلى هدفه باستيعابنا عبرته، فينقلنا بعد ذلك إلى مرتبة أعلى ودروس مناسبة لإمكاناتنا الجديدة.

فكرة الزمن تأخذني إلى الفكرة الأساسية التي أودت بي إليها أيضاً، نتقاذف الكرات أنا والفكرة ذهاباً وإياباً، وأغوص في عمقها:

لم تمض مدة طويلة لنتذرغ بنسيان ما حصل في حماة وإدلب في ثمانينات القرن الماضي، أذكر أنني كنت صغيرة جداً حين كنت أسمع أحاديث والديّ وعائلات الجوار بأصوات خافتة من دون أن أفهمها تماماً.

كانوا يتبادلون أطراف الحديث في سهراتهم الأسبوعية محذرين بعضهم وإيانا بأن "للجدران آذان"، وملمحين إلى أحداث وأشخاص من دون ذكر أسماء صريحة.

نعم كان للجدران آذان، وكان لهم قلوب أيضاً وأمنيات بأن ينتصر الحراك الذي بدأ ضد حكم الاستبداد والعبودية، لكن أحداً منهم لم يتجرأ على التعبير عن أمنيته تلك لأنه كان يعرف النتيجة المحتمة لمثل هذه التمنيات، فدرجوا على تسمية الحراك بـ "الأحداث" خوفاً من أن يُتهموا بالتواطؤ والعمالة، تلك التهمة التي أصبحت بمتناول اليد لكل شخص يعبر عن رفضه وانتقاده. 

لقد بات كل من ينتمي إلى المدن تلك محطّ اتهام وتخوين بانتمائه الديني والعقائدي، وموصوف بتآمره بهدف الانقلاب على نظام الحكم وهو ما يعد بمنزلة التكفير والخروج عن الملّة السياسية المقبولة والمعتمدة آنذاك.

لقد صنعوا منا جلادين بعضنا ضد بعضنا الآخر، فكان أيّ منا مضطراً لتقديم تقريرٍ بحسن نواياه وتوضيح عدم إيمانه بالثورات كي يربح تقبل المحيط له، لم تكن في ذلك الحين وسائل الاتصال التي تؤمن سرعة انتشار الخبر موجودة مثل هذه الأيام، ما جعل كثيراً من الأحداث التي حصلت لا تصل إلى مسامع الآخرين، ليكونوا غير قادرين على استيعاب حصولها والتعاطف معها أو إعادة نشرها لحشد مؤيدين للقضية .

فضلاً عن أن القبضة الأمنية كانت في أقسى صورة لها من خلال الاعتقالات والإخفاء القسري والقتل تحت التعذيب، فأحجم معظمنا عن مساندته لأي حراك في العلن، وأصبحنا نمنّي أنفسنا بنجاح أي حراك يغير الواقع من حال إلى حال.

"جيلكم كان أكثر شجاعة من جيلنا"، على الأغلب سمع أكثرنا هذه الجملة من الجيل الذي سبقه وهو يشيد بجرأة الشباب في تنظيم الثورة في عام 2011 أو المشاركة فيها، كانوا يعبرون عن ذلك بحسرة وأمل وهم يتمنون علينا تحقيق ما لم يتمكنوا من تحقيقه. 

ربما يستطيع كثيرون المحاججة بعدم جواز المقارنة بين الحالتين متذرعين بأن حراك الثمانينات لم يكن حراكاً ثورياً، وأنه لم يكن سوى تحرك من الإسلام السياسي بهدف الانقلاب على السلطة، رافضين منحهم الحق في جواز ذلك التحرك.

لكننا هنا لا نناقش جوازية هذا الحراك من عدمه بقدر ما نحاول الإضاءة على الخطر المختبئ خلف التنكر والتخفي في استخدام تسميات قد تغير صفة الثورة السورية على المدى البعيد، وتجعلها محط تخوين وتكفير إذا لم نعِ خطورة هذا الإجراء، إذ إننا قد ننفذ بصمتنا وخوفنا من التصريح بالحقائق أو من تسمية الأشياء بمسمياتها، أجندة النظام بوصم الحراك الثوري بالإرهاب مثلما حصل في الثمانينات مجتهدين بعد ذلك لتبرئة أنفسنا من تأييده. 

إن الديمقراطية كمبدأ لا تقبل القسمة على اثنين، وليس من حق أي أشخاص ينتمون إلى فكر عقائدي أو تنظيم معين تكفير أي حراك قد يهدف إزالة الظلم والانتصار للمظلوم بسبب اختلافهم في الانتماء أو العقيدة، إذ إننا إذا كنا منسجمين مع أنفسنا وغير منكرين لوجود الآخر فنحن على خلاف انتماءاتنا نسعى لتحقيق دولة عادلة محكومة بدستور مدني وتطبق فيها قواعد فصل السلطات، وفي هذا لا يجب أن يعنينا انتماء الحزب الحاكم أو دين الرئيس المفترض.

لم تكن عقيدة الحاكم هي مشكلة الثائرين في 2011، كما لم يكن محركهم انتماؤهم الديني، ما حدث ببساطة أننا عايشنا انفجاراً مدوياً وغير منظم وتداخلت فيه الأعمال الاستخبارية بعد ذلك كي تشوّه شكله ومضمونه وتسجل نقاطاً للتاريخ تستطيع بها أن تشلّ حركة الثائرين المحتمل وجودهم في سنوات قادمة.

لقد طال أمد الظلم وكان من الضرورة وضع نقطة في نهاية السطر كي لا يصبح عادة وأمراً طبيعياً، وما حدث أن النخبة تراجعت وتركت الشارع من دون تنظيم، فشرع يفرغ غضبه بالطرق والآليات التي لم يتعلم سواها بسبب عقود من القمع السياسي والاستبداد والتجهيل واحتكار السلطة. 

ربما لم نتعلم كثيراً من الدروس، وافتقدنا أهمية الوعي التراكمي المتوارث فاضطر الزمن إلى تكرار الحكايات وقصها مرات كثيرة. 

ما الذي جنيناه إذن من الألم الذي عانيناه طيلة عقود، إذا لم نتعلم حتى اللحظة أن أول ما علينا تطبيقه في حقوق الإنسان هو منح الحق للآخر مثلما نطلبه لأنفسنا بغض النظر عن الاختلاف في الرأي.

لقد علمتنا دروس الزمن في العقد الأخير أن التاريخ يكتبه الأقوياء والمنتصرون، وأننا قد نفقد البوصلة بفعل عدة عوامل، وأن تجاهل وجود أصواتنا في التاريخ الذي يكتبونه أو صياغة سردياتنا وترك المنبر للخطابات الكاذبة والمواربة والتي تكيل بأكثر من مكيال، قد يخسرنا أحقيتنا في رفض الظلم في سنوات كثيرة قادمة.

وفي هذا فإن من واجبنا في المقدمة كمثقفين عدم الانصياع لتطويع اللغة وعدم خيانة المصطلحات الحقيقية، واستبدالها بما هو أخف وطأة وأعني هنا بالضرورة استبدال مفردة ثورة آذار عام 2011 بمفردات مثل "الأزمة، الحرب، الأحداث"، وهذا فخ قد يقع فيه كثيرون منا بفعل عوامل مختلفة، لكنه لا يؤدي في النهاية إلا لتغيير وجه الحقيقة وتشويه حقيقة الثورة النقية التي ضحى كثيرون في سبيلها.

الانتصار أمر نسبيّ قد يحسبه بعضنا سيطرة على الأرض أو الممتلكات، فيما يحسبه آخرون بشكل معنوي بتحقيق أهداف الثورة في غرس مفهوم الحق والديمقراطية وتداول السلطة حتى وإن كان ذلك على المدى البعيد، ليكون هو انتصارنا الحقيقي مقابل خساراتنا الفادحة التي مُنينا بها.

فالطغاة زائلون والطغيان لا دوام له، إنها مرحلة مؤقتة حتى وإن طالت عقوداً، ولا يعدّ من باب التنظير أن نقول إننا مسؤولون عن عدم السماح بتزييف التاريخ والتصريح بما يريدون، ذلك أن أكثر ما يمكن أن يفعلونه لنا هو جعلنا أسرى لخوف زرعوه فينا حين لم يستطيعوا قتلنا أو اعتقالنا.

كلمات مفتاحية