في خيانة المصطلحات

2020.12.29 | 23:01 دمشق

032815_1357_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

من الناحية الفيزيائية تصبح الأشياء أقل وضوحاً كلما ابتعدنا عنها، من الممكن القياس في هذه الحالة على الناحيتين المعنوية والزمنية أيضاً، فالدماغ يختار إدراك الصورة الأقرب لتحليلها وفهمها وتكوين دائرته الآمنة من خلالها، بهدف الحفاظ على مستوى الأمن الذي اعتاده أو ينشده. 

تعمل الثورات على التغيير ومن ثم زعزعة الحالة الآمنة التي اعتادها العقل، لتحسين الواقع أو للوصول إلى أهداف ليست في المتناول، فهي تمرد على القديم ومحرض قوي لاختلال التوازنات وزعزعة الثوابت التي عفا عليها الزمن، لذلك تؤدي إلى اضطراب مرحلي قبيل الاستقرار والعودة إلى حالة الأمان المعتادة.

إلا أن رفض الثورات واتهامها أو محاربتها لا يمكن تبريره بحالة الأمن التي اعتادها الإنسان، وعلى الرغم من اختيار الصمت حقاً في مرحلة ما، يصبح التصريح أمراً ضروريا لا مفر منه لإعلاء الصوت في قول كلمة الحق.

لا نستطيع إنكار عامل الخوف في بعض من الحالات، لكنه ليس مبرراً كافياً ومُسقطاً للمسؤولية المفترضة على كل منا. 

انحدر مسار الأحداث في سوريا انحداراً مروّعاً وجعل الوضع صارخاً في مأساويته، لكن المدة الزمنية التي استغرقها جعلت الحقائق مبهمة نسبياً، ومُختلفاً على منحها وصفاً نمطياً وإيديولجياً واضحاً

عَوْدٌ على بدء، وبإسقاط ما سبق على الحالة السورية فاعتقادنا الشخصي بأنه من غير الصحي اتهام الأغلبية الصامتة بمسؤوليتها تجاه انحراف الأحداث في الثورة، لا يعني بالضرورة أنها لا تتحمل مسؤوليتها التاريخية في هذا الخصوص.

لقد انحدر مسار الأحداث في سوريا انحداراً مروّعاً وجعل الوضع صارخاً في مأساويته، لكن المدة الزمنية التي استغرقها جعلت الحقائق مبهمة نسبياً، ومُختلفاً على منحها وصفاً نمطياً وإيديولجياً واضحاً.

فآثر بعضهم اتهام الحدث الثوري ومؤيديه بالتآمر والعمالة، ونعت الثورييين بالخيانة والانصياع للإمبريالية، فيما انحاز عددٌ ليس بالقليل إلى الثورة، وبقيت الأغلبية في حالة صمت غامض غير مصرحة بموقفها لدوافع مختلفة، متغاضين بذلك عن كمّ الألم الذي يعيشه أبناء جلدتهم، لكن موقفهم الصامت كان له أثرٌ سلبي في تقوية موقف المشككين بالثورة وردّة الفعل العالمية الجماهيرية تجاهها، ذلك أن الخطيئة لا تكمن فقط في تزوير الحقيقة والكذب بشأنها، وإنما بإخفائها أو التزام الصمت تجاهها أيضاً.

وبالرغم من أننا أصبحنا نعاني بوضوح أزمة عامة لدى بعضنا تشابكت فيها التسميات (من ثورة إلى أزمة إلى حرب أهلية وعمليات إرهابية)، واختلطت فيها الحقائق _لدى بعضٍ آخر_ بين (جلاد وضحية)، يفرض الواقع علينا وجود أزمة لا تقل بجديتها عما سبق، وهي أزمة "خيانة المصطلحات".

قد يرى أحدنا أن مسألة التعابير والمصطلحات ليست من الأهمية بقدر تأمين لقمة العيش في هذه المرحلة، أو أن الحديث بخصوصها يعد ترفاً يبتدعه المثقفون غير العابئين بالوضع المعيشي، لكن ذلك منافٍ للحقيقة لأن الحالة المعيشية وأزمة المصطلحات على حد سواء، قد أرخت بظلالها على الطبقات الاجتماعية كلها ولدى السوريين جميعهم الذين تضرروا من سير الأحداث على اختلاف رقعتهم الجغرافية وامتدادها، ما يعني أنهم قد لا يعانون من جراء السعي وراء قوت يومهم، ولكن لوثة المصطلحات الجديدة قد ألمّت بهم مثلما ألمّت بسوريي الداخل المقهورين اليوم، وهذا يعني أننا بتنا نرتكب الخطيئة ذاتها على اختلاف معتقداتنا وانتماءاتنا ونصطف في خندق واحد متحملين المسؤولية في الوقت نفسه. 

وفي هذا علينا أيضاً أن نكون منصفين تجاه من انصاع لخيانة اللغة وفقدان التعابير الحقيقية تجاه ما حل بالشعب السوري، فالعقل وفقاً للدراسات النفسية يضطر إلى طرد الذكريات السيئة لتحل محلها ذكريات جديدة جيدة، تمنح الجسد قوة على الاستمرار وتشكل لبنة في رحلة التعافي.

لكننا قد نضطر إلى مواجهة مسؤولية أخرى تتمثل فيما قد يواجهه الجيل الذي نشأ في خارج البلاد اليوم من تحدٍ قائم على تزييف التاريخ وتغييره، ووضع الأحداث المؤلمة التي عاشها السوريون بعد ثورة 2011 في إطار غير إطارها الحقيقي وإكسائها بصفات لا تمتّ إليها بصلة. 

ويمكن أن نكون مشاركين في هذا التزييف عن غير دراية، إما بسبب طلب التعافي وطرد الذكريات السيئة من الدماغ، أو باستخدام المصطلحات التي تتكرر عبر المنصات الإعلامية لنبدأ باستخدامها شيئاً فشيئاً بفعل التعود أو خوفاً من السلطات في البلاد التي لجأنا إليها.

من ناحية المبدأ فإن فكرة الثورة تكتسب اسمها وصفاتها بغض النظر عن الانتماء الإيديولوجي والسياسي لمن قام بها. وعلى هذا لا يمكننا نفي فكرة الثورة اصطلاحاً ومفهوماً عمن يختلفون معنا في الانتماء أو الرأي، ما يعني أن ما حدث بعد الثورة من انحرافات واصطفافات أو تخوين أو استقدام المرتزقة وتحويل البلاد إلى ساحة للصراعات، لا يعني بشكل من الأشكال أن الثورة لم تكن محقة أو ضرورية، ولا يبيح لنا تعريتها من خصوصيتها واستحقاقها.

انطلاقاً من هذا فإننا يمكننا التعويل على استقرار المفهومات وبيان الحقائق على المدى البعيد، فالذكريات لا تملك مدة صلاحية ولا تختفي أو تنتهي، لكن العقل يمارس سطوته باستخدام آليات الدفاع عن النفس وتعزيز غريزة البقاء، فيعمل على إبعادها إلى الخلف واستبقاء ذاكرة جيدة في المقدمة.

فنلجأ إلى استخدام الكلمات الأقل ألماً في وقعها بالرغم من أن ما حلّ بنا كان الأسوأ، أو نحاول اختيار الجمل في كتاباتنا كي لا يكون وقعها صادماً على من يقرأ سفر معاناتنا ويتعاطف معها.

نتعلم التحكم بنوبات غضبنا وانفعالاتنا باستخدام المهدئات ومضادات الاكتئاب، نروض حزننا ونحفظه في زجاجات كي لا يفيض ويُغرق العالم.

إن هذا أمرا طبيعيا فالحياة تستمر والذكريات تضمحلّ لكن ذلك لا يجعلنا قي حلٍّ من تقصيرنا في صياغة سردياتنا ووصف معاناتنا وكتابة تاريخنا، ذلك أننا مهما جهدنا في محاولة تلطيف الواقع فإن ذلك لا يجعل منه واقعاً مختلفاً أو جميلاً.

الذاكرة لا تخون لكنها بارعة في الخداع، تختار لنفسها ما يبقيها على قيد الحياة، إنها طبيعة الجنس البشري الهشة.

النسيان في حالتنا قد يكون أكثر ألماً فيما لو جعلنا نعتقد أن ما خسرناه أو ضحينا به كان غير ذي جدوى أو فائدة

إننا مع هذا الألم الذي عايشناه كله من فقد وموت وذكريات مكتظة بلون الدماء والألم لم يعد يتحملها جسد أو عقل كان لا بد من أن نستخدم امتياز النسيان الذي منحتنا إياه الطبيعة.

غير أن النسيان في حالتنا قد يكون أكثر ألماً فيما لو جعلنا نعتقد أن ما خسرناه أو ضحينا به كان غير ذي جدوى أو فائدة.

إن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المسيطرة في العالم، تثبت أننا ميتون لا محالة سواء فعلنا أم لم نفعل، قلنا أم لم نقل، ثرنا أم لم نثر، وفي هكذا حال يرجح الإنسان الطبيعي أن يكون فاعلاً إيجابياً في مسار حياته وخياراته، على أن يكون مشاهداً غير مؤثر فيها منطلقاً من عبارة: "إن نطقت مت وإن صمت مت، فقلها ومت". 

كلمات مفتاحية