في حضرة "كورونا"

2020.03.21 | 23:04 دمشق

2020-03-21t055928z_1765999010_rc25of90o7z0_rtrmadp_3_health-coronavirus-china.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعيداً عن وجه هذه المأساة، وعن وجه هذا الرعب الذي يلف أرضنا بعد ظهور الفيروس اللغز "كورونا"، وبعيداً عن قراءة الساسة والاقتصاديين وعلماء الفيروسات، وبعيداً عن كل هذا، ثمة سؤال آخر، سؤال قد كان منذ أن وعى الإنسان وجوده على هذه الأرض، وما يزال السؤال نفسه يُطرح دائماً: هذه البشرية إلى أين تمضي؟

اليوم، في مطلع العقد الثالث من الألفية الثالثة، يبدو أن الصراع محتدم بين جهتين: جهة مستبدة تحكم شعوبها بالعسف والظلم، وهي تجاهد لكي تكون القوة العظمى، وجهة أقل عسفاً وظلماً على شعوبها، لكنها متوحشة وعمياء، وهي تجاهد لتبقى القوة العظمى، وبين هاتين الجهتين تُطحن البشرية طحناً.

وبين هاتين الجهتين ثمة ضحية رئيسة: إنها العدالة، حلم البشرية الذي ما انفكت تسعى إليه، وتكافح من أجله؛ لأن العالم بدونه سيبقى عالماً مفتوحاً- على اتساعه- للدمار والموت.

عندما أُسدل الستار على مقتلة الحرب العالمية الثانية "1945"، طُويت معه صفحة الاستعمار التقليدي التي كانت على صدرها بريطانيا وفرنسا، ولقد تكرس وجود قوتين جديدتين: قوة شيوعية اشتراكية يتزعمها الاتحاد السوفييتي، وقوة رأسمالية تتزعمها الولايات المتحدة الأميركية. وعلى هذا دخل العالم كله إلى الثنائية القطبية التي حكمته ما يقارب نصف قرن.

وما كانت تلك الحرب لتتواضع؛ فتتمخض عن قطبيها فقط، فقد تفردت وتمخضت عن ظهور نظام عالمي

وما كانت تلك الحرب لتتواضع؛ فتتمخض عن قطبيها فقط، فقد تفردت وتمخضت عن ظهور نظام عالمي، كانت أهم واجهاته: هيئة الأمم المتحدة التي وجدت- بحسب المعلن- لتسيير وتنظيم العلاقات الدولية، التي أعطت خمس دول كبرى ما عرف بحق النقض "الفيتو"VETO"، وتكرمت؛ فأعطت النظام النقدي العالمي- الذي تكرس عبر مؤسسات نقدية عالمية جديدة، مثل: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي وحواشيهما واستطالاتهما التي هي دبابات سيطرة الدولار وحصونه- ما به تكرس تحكم الرأسمالية في العلاقات الاقتصادية العالمية، بينما حاول القطب الثاني الذي يقوده الاتحاد السوفييتي الذهاب باتجاه آخر هو الاقتصاد الموجه (الاشتراكية)، حيث الدولة تملك البشر كافة، وتملك كل وسائل الإنتاج.

وما كان في ممكناتهم ولا في خططهم أي أهمية للخمسة والخمسين مليون إنسان، أولئك الذين فتكت بهم تلك الحرب، ولم يكن في ممكناتهم ولا في خططهم أدنى أهمية للمدن المدمرة، ولا للبشر الهائمين على وجوههم بين خراب بيوتهم ومدنهم وروائح أوطانهم، وما كان في ممكناتهم ولا في خططهم توشيح ملامح العالم الجديد بأحلام من تعبوا ومن جاعوا ومن ضحوا؛ لأن القوتين المنتصرتين قد كانتا مشغولتين بالإيغال أكثر فأكثر في حرب السيطرة على هذا العالم.

إن أميركا التي لم تطلها الحرب مباشرة، ولم تُدمر مدنها، والتي بقي اقتصادها قوياً لكي "تتمرشل" به على أوربا المنهكة. أما الاتحاد السوفييتي الذي أدخله عماء الأيديولوجيا والاستبداد في صراع تحدي السيطرة؛ فمد ظلال دباباته الثقيل على شعوب وبلدان ما كادت تخرج من تحت صليل الأسلحة والجنازير. أوربا المنهوكة والمنتهكة وحدها قد حاولت أن تتلمس وجهاً آخر، هو الوجه الذي استخلصه الأوربيون من دمار مدنهم وجثث ضحاياهم، ومن عمق فلسفتهم وآفاق أدبهم ورهافة موسيقاهم.

ولم يطل الأمر كثيراً؛ إذ ما وزن خمسة العقود في مسار التاريخ، حتى انهار أحد القطبين؛ فانتقل العالم بعدها إلى القطبية الأحادية، حيث تمتلك دولة واحدة في هذا العالم معظم النفوذ الثقافي والاقتصادي والسياسي، الذي هو حصاد امتلاك القوة العسكرية الأكبر؛ فتعززت الجلافة بالتفاهة.

هذا هو وضع العالم الراهن، الجيوسياسي والاستراتيجي، فالهيمنة الأميركية في المجال العسكري والتقني حقيقة لا نقاش فيها، والليبرالية والليبرالية الديمقراطية تسيطر على العالم، وهي التي تملي معاييرها على مختلف الجوانب الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والمعلوماتية، وعلى تفاصيل سلوك البشر وثقافتهم وحتى ماذا يرتدون وكيف ينامون.

ومع ذلك، وقد يكون بالرغم من ذلك، فقد بدأت ظواهر تفكك هذه الأحادية القطبية، تحديداً في زاويتها الاقتصادية والصناعية؛ لأن بلداً لم تطله الحرب العالمية الثانية عميقاً، إضافة إلى أنه يمتلك مساحة جغرافية شاسعة وعدد سكان هائل، قد استطاع أن يصبح البلد الأول في العالم بنموه الاقتصادي ودخله القومي، إنه الصين ذاك البلد الذي باستعباده ما يزيد عن مليار إنسان، استطاع أن يغزو العالم اقتصادياً، والذي أيقظ الخوف الأميركي من فقدان الهيمنة العالمية؛ فبدأ سباقاً محموماً آخر نحو السيطرة يفرض وقائعه على البشرية.

على هذا، بعد الاستناد إلى الجغرافيا والتاريخ والحقوق، من الطبيعي أن تكون أوربا الطرف الأضعف في هذا الصراع؛ لأن القيم التي تكرست في المجتمعات الأوربية بعد كارثة الحرب العالمية الثانية، لا تسمح باستعباد مواطنيها (على غرار الصين)؛ كي تحقق دخلاً قومياً مرتفعاً، وليست في موقع الولايات المتحدة التي يشكل النهب والهيمنة وتحكمها بمنظومة النقد العالمي جزءاً مهماً من دخلها وقدرتها على تكريس تفوقها العسكري.

هكذا تتراجع ثقافة الحرية والديمقراطية وقيم الإنسان بين منهجين في الصراع الدائر للسيطرة على العالم؛ فيطل التوحش والقمع والاستعباد؛ ليعيد رسم حياة البشر ومصائرهم.

إنه زمن بارد وساكن، زمن العالم هذا الذي تتسيد واجهته شخصيتان، مثل بوتين، وترامب، يتفاصحان ويعلنان بالفم الملآن عن وجه العالم القادم، دون أن يتجرأ أحد، ولا أن يتمكن أحد من ملء أفواههما بالحجر أو بالفراغ. إن ترامب يعلن متفاخراً: أنه سيكون شرطي هذا العالم. فهو لا يهمه إلا أن يقبض من الآخرين؛ فليس هناك معيار لسياسته الخارجية سوى معيار ما يقبضه. وبوتين الذي صرح بحضوره وتاريخه: إن زمن الديمقراطية انتهى. واستطاع أن يكرس نفسه زعيماً إلى الأبد في بلد لم يتخلص من الأبدية إلا منذ عقود، وهو الذي أعلن أيضاً: إن نموذج العالم أحادي القطب انتهى. وهو يستلهم من حليفه الصيني كيف تدار المجتمعات؛ لتكتمل اللوحة.

إنه الصين ذاك البلد الذي باستعباده ما يزيد عن مليار إنسان، استطاع أن يغزو العالم اقتصادياً، والذي أيقظ الخوف الأميركي

قد لا يكون كورونا منتجاً قد تم إطلاقه عمداً من مخابر ما لغايات اقتصادية وسياسية كما يتبنى بعضهم، لكنه بالتأكيد سيكون محل استثمار سياسي واقتصادي وأمني.

إن كورونا يعزز سيطرة الحكومة الصينية على شعبها، ويحاول ترامب أن يستثمره اقتصادياً بأسرع وقت بينما تقف أوربا ضائعة ... وتظهر ميركل زعيمة أقوى اقتصاد أوربي؛ لتناشد المجتمع الألماني أن ينتبه؛ فالخطر القادم لا تقل فداحته عن خطر الحرب العالمية الثانية، ولتحاول أيضا أن تنقذ شيئا من ضمير الإنسانية المنتهك.

وعود على بدء، لابد أن نبدأ ونختم بالقول: إن البشرية المضطربة التي تعيش الرعب، والتي تدفع ثمن غياب العدالة، سواء أكان هذا العالم بقطب واحد أم باثنين أم بعشرة أقطاب، ستظل الحروب تطحنه مالم يتوضأ بالعدالة، عدالة الأرض دائماً لا عدالة السماء.

كلمات مفتاحية