في الذكرى الثانية والخمسين لانقلاب حافظ الأسد.. التأسيس للخراب ـ1

2022.11.22 | 07:22 دمشق

ملعب الجلاء بدمشق
+A
حجم الخط
-A

ربما كان حافظ الأسد مرتبكاً إلى حد ما، عندما تخلّص من شركائه، الذين وصل معهم عبر انقلابات متتالية إلى موقع السلطة في سوريا، وزجّه بهم في السجون بعد انقلابه العسكري منتصف تشرين الأول 1970م، فقد وضعه هذا الانقلاب في موقع المسؤولية الأول، وهناك عقبات بالغة الخطورة أمامه، وهو غير متأكّد أن بإمكانه إزاحتها أو التغلب عليها، ولعل أقلها أهمية كانت المشكلة التي تسبب بها انقلابه داخل حزب البعث العربي الاشتراكي، فهو سيحكم باسم هذا الحزب، وهو نفسه من وضع قادة هذا الحزب الأكثر نفوذاً فيه في السجن، ثم تأتي عقبته الثانية المتمثلة في انتمائه الطائفي، والذي قد يستفز الشعور العام لدى نسبة كبيرة من السوريين، وهناك مشكلة ولاء الجيش التي وإن بدت تحت السيطرة يومها، إلا أنه لم يكن كامل الثقة بأن كل وحداته قد تقبل بانقلابه، وبالتالي فإن إمكانية حدوث متغيرات وانشقاقات أخرى، قد تظل في الحسبان.

لن أتطرق هنا إلى السبل التي سلكها حافظ الأسد للتغلب على هذه العقبات الأساسية، فقد أصبح معظم السوريين المهتمين بمعرفة هذه السبل على إطلاع كاف بها، خصوصاً بعد انفجار الثورة السورية، وبعد فيض الكتابات عنها، بعد إزاحة الكثير من الحجب  التي غيبت هذه الحقائق عنهم، ولا سيما أن الإمكانيات الهائلة والسهلة للوصول إلى المعلومة بعد ثورة الإنترنت، كان لها الدور الأهم في ذلك.

كانت الخطوة الأهم التي رسّخت وجود حافظ الأسد في حكم سوريا، وأمنت له دوراً إقليمياً برعاية قوى كبرى، هي حرب تشرين، والتي رغم خسارته فيها عسكرياً، إلا أنها كانت العرّاب الحقيقي له في قبوله كلاعب إقليمي، ويمكن اختصار هذه الفكرة بالقول إن حرب تشرين كانت بمنزلة نجاح له، في دفع أطراف إقليمية ودولية، على القبول به كلاعب في المنطقة.

لم يطل الوقت كثيراً، فبعد ما يقرب من سنتين على نهاية حرب تشرين انفجرت الحرب الأهلية في لبنان، وجاءت مهمته الأولى، في منع تغيير صيغة الحكم في لبنان، وهكذا دخل الجيش السوري إلى لبنان في حزيران 1976م، وكان هذا التدخل بداية مرحلة جديدة للنظام السوري، وبداية لترسيخ دوره في المنطقة، وبناء على هذا الدور الذي لم يكن ليتم لولا موافقة أميركية، إسرائيلية، وأوروبية، استطاع حافظ الأسد أن يضمن صمتاً غربياً حيال خطته في قمع وإخضاع الشعب السوري، وبناء الدولة المسخ التي تتبع لسلطته، بعد أن يهدم كل ما قد يُشكّل إعاقتة أمام خطته هذه.

إذاً، وبعد هزيمته في حرب تشرين 1973م والتي صورها إعلامه على أنها انتصار تاريخي، والتي كان قد سبقها بهزيمته الفضيحة في حزيران 1967م، لم يكن للحروب التي خاضها حافظ الأسد أي وجه عسكري حقيقي، فكل حروبه اللاحقة كانت ضد مدنيين أو ميليشيا منخرطة في حروب أهلية أو ثورات، سواء في لبنان أو في سوريا، وما يقال أحياناً عن مواجهات بينه وبين إسرائيل، خصوصاً في عام 1982م، لم تكن أبداً بوارد فتح معركة حقيقية، وإنما كانت مواجهات فرضتها اعتبارات سياسية خارجية أو داخلية، لكن أطرافها جميعا يعرفون جيداً محدوديتها العسكرية.

إذا يمكن القول إن الدور الوظيفي الذي أوكل لحافظ الأسد بدخوله إلى لبنان، وبعد تجميده لجبهة الجولان إلى الأبد، فتح الباب أمامه واسعاً لترتيب البيت السوري كما يشاء

إذا يمكن القول إن الدور الوظيفي الذي أوكل لحافظ الأسد بدخوله إلى لبنان، وبعد تجميده لجبهة الجولان إلى الأبد، فتح الباب أمامه واسعاً لترتيب البيت السوري كما يشاء، وهذا ما أسّس لكل هذا الخراب الذي نراه اليوم، والذي يعم كل سوريا، وجاء العامل الأهم الذي ساعد حافظ الأسد في إخضاع سوريا والسوريين على طبق من ذهب كما يقال، عندما أشعل تنظيم الإخوان المسلمين معركته المسلحة معه، الأمر الذي أرغم السوريين على قبول طغيانه من جهة، وأسكت المجتمع الدولي عن الجرائم الكبرى التي ارتكبها بحق السوريين، وهكذا استباح حافظ الأسد كل ما في سوريا، الدولة، والمجتمع، والاقتصاد، والسياسة، وكان عقد الثمانينات من القرن الماضي هو عقد سحق المجتمع السوري، وعقد إجهاض الثقافة، والسياسة، والتعليم، والقضاء، وكل ما يُمكن أن يشكل مناعة للجسد السوري في أوقات الأزمات أو الكوارث.

من أبرز التحولات الخطيرة التي أسّس لها حافظ الأسد، وأوصلت سوريا إلى ما هي عليه الآن، كان إنهاء الحياة السياسية في سوريا، والتي كانت رغم هشاشتها بعد حكم عبد الناصر خلال فترة الوحدة بين سوريا ومصر، وبعد وصول حزب البعث بانقلابه العسكري 1963م، لا تزال قابلة للنمو والتطور، لكنه تعمّد منع الصيغة الطبيعية الضرورية للسياسة في أي مجتمع حديث، أي صيغة المعارضة وفق أسس ديمقراطية، بوجود الإعلام الحر، وقام بوأد كل إمكانات ولادة هذه الصيغة، واستبدلها كما هو معروف بصيغة هزلية حولت السياسة، إلى مجرد مهرجانات للتكاذب والنفاق.

بعد إنهاء الحياة السياسية، استكمل حافظ الأسد خطته بخطوة أكثر خطورة، تمثّلت في ابتلاع السلطة للدولة، ثم وفي خطوة لاحقة في إحكام  الأجهزة الأمنية السيطرة على الدولة، ومن البديهي أنه ما كان ليسمح للأجهزة الأمنية بلعب هذا الدور لولا أنه – أي حافظ الأسد- كان قد أنشأ هذه الأجهزة ورتب بنيتها كما يريد، وبالتالي أحكم سيطرته عليها.

كان حتمياً في هذه الحالة أن يصبح كل من القضاء، والقانون، والجيش، والتعليم وكل ما يصنف على أنه مؤسسات الدولة، أو أنه الحيّز العام الذي لا يجوز للسياسة أو السلطة أن تستحوذ عليه، تحت سيطرة الأجهزة الأمنية، ففقدت سوريا آخر أسوار حمايتها، فلم يعد في سوريا قضاء حر يمكن أن يعمل خارج سلطة العائلة، ولا جيش، ولا مؤسسات أمنية، ولا مؤسسات تعليمية، وحتى المؤسسة الدينية أصبحت تستمد تعاليمها من القصر الجمهوري، وليس من المقدس الذي تعبده هذه المؤسسة.

رافق التحولات التي ذُكرت سابقاً، تحولات أخرى لا تقل خطورة عنها، وهي تتكامل معها وتغذي كل منها الأخرى، وأقصد التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي عصفت بسوريا، هذه التحولات التي أسس لها حكم الوحدة بين مصر وسوريا 1958م ، والتي استمر بها حزب البعث العربي الاشتراكي عند وصوله إلى السلطة 1963م، لكنها لم تأخذ وجهها الكارثي إلا في عهد حافظ الأسد، أي ما بعد 1970م، والتي تجلّت بسحق المرتكزات الأساسية للبرجوازية الوطنية، وسحق الطبقة الوسطى، وسيطرة البرجوازية الطفيلية، عبر إدخال السمسرة والوساطة والفساد كعوامل شديدة الفعالية، وفائقة الأهمية في الاقتصاد السوري، ليس هذا فحسب، بل إن تغلغل السلطة وسيطرتها على مفاصل الاقتصاد بشقيه العام والخاص، تطلّب بحكم طبيعة السلطة القادمة من الأرياف، أن تستقدم هجرة واسعة من الريف إلى المدينة، ليس هذا فحسب، بل ومكّنت الريف من التحكم بالمدينة، بعبارة أخرى ترييف المدينة، ليس من حيث التغيير السكاني فحسب، بل ومن حيث سيادة ثقافة الريف، وطبيعة علاقاته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

بالتأكيد لم يكن حافظ الأسد يريد نقل سوريا إلى نمط الدولة الحديثة، ولم يكن هذا الأمر وارداً بالنسبة له، فالدولة الحديثة في شروطها الدنيا، سوف تمنعه من استمرار حكم العائلة الذي خطط له، وعمل عليه طويلاً، ولهذا لم يمنع ترسيخ صيغة الدولة وحسب، بل إنه حطّم بكل الإصرار والتعمّد الخطوات التي كانت قد تحققت بالحدود الدنيا بعد الاستقلال.

 

كلمات مفتاحية