في الحديث عن جالية سورية في المهجر

2023.04.13 | 07:11 دمشق

في الحديث عن جالية سورية في المهجر
+A
حجم الخط
-A

ذات مساء ماطر وعلى دعوة للعشاء، في مطعم شرقي حمل اسما دمشقيا في مدينة ألمانية التقيت برفيقين من عهد الثورة، جلس المثقف ابن العائلة البرجوازية العريقة والخارج عنها من حلب، والذي ما انفك يطرح رؤيته اللاعنة للبرجوازية الحلبية -ولعله يقصد البرجوازية برمتها-، وفي لحظة تشنج كشفت دواخله التي لم يستطع الانفلات منها؛ قال ما زلت أذكر كيف أن جدي وقف بي ذات مساء في قصر مطل على أحد أحياء المدينة وقال "كل هذا المجتمع بحاجتك فأنت ابن صناعي وتاجر يملك جزءا مهما من السوق والكل يحتاجك ليعمل لديك أو يستدين منك، ونشكل نحن البرجوازيين مجتمعا خاصا بنا له مظاهره ونمط حياته"، فرددت لكن كل هؤلاء قوة شرائية ولا قيمة لمعامل الجد ولا محلاته التجارية ما لم يكن هناك من يشتري، كما أنهم قوة عمالة لن ينجح المالك في تشغيل رأسماله لو أعلن العمال إضرابا ما، فما كان جوابه إلا أنه لا بد للفرد من جماعة يعرف نفسه بها وتشعره بالانتماء ولم يجد غيرها رغم خروجه على عرف العائلة وانضمامه للثورة وعانى الاعتقال والتشريد.

قبالة ذلك كان ابن العائلة الإقطاعية والمحسوب على مشيخة إحدى القبائل جالسا فرفع عقيرته وقال "كانت القبيلة والإقطاع أكثر قدرة على تثبيت أعراف مجتمعية من شأنها إيجاد توازن اجتماعي"، وذهب البرجوازي يطرح كيف أن البرجوازية الحلبية تمتلك قدرة من التماسك المجتمعي وطابعا خاصا بها أكثر من طابع التجانس الموجود لدى الإقطاع أو القبيلة، فما كان مني وأنا الرافض للرؤيتين إلا أن أرد بأن ما يجمع البرجوازيات الصغيرة مصلحتها التي تحتمل التناقض والتضاد والصراع وما الحديث عن توافقها إلا حديث عن طابع رمزي شكلي وطقوسي استعراضي، لتأكيد الانتماء وتكريس الوجود ضمن هذا النسق الاقتصادي، وأن هذه الصيغة في الحوار لا تجدي في تلمس فكرة تفيد في دور البرجوازية ولا الطبقات الاجتماعية في أن تكون تحاول تغييرا وطنيا ما، كما لا يخرج ابن المشيخة القبلية ولا القبيلة عن ذلك؛ رغم اختلاف عوامل تشارك أو تعاضد كل منهما عن الأخرى، ولست بوارد الحديث عن أثر البرجوازية ولا دراستها كقوة اقتصادية تختزن القدرة على أن تكون حامل تغيير اجتماعي؛ بقدر ما أريد الاستفادة من المظاهر الاجتماعية التي يتم تكريسها، أو السعي إلى تكريسها لتعبر عن خصوصية كل جماعة -وهو موضوع مقالنا-؛ لم تصل منهجيا لتكون نسقا اجتماعيا حقيقيا يفرز آلياته وأدواته، رغم ارتباطها أو انطباعها بجملة خصائص تنفع في دراسة ذهنيتها وطرق تعاملها وتفاعلها مع متغير ما.

هل يمتلك هذا الوجود للكتلة المهاجرة ثقلا سواء في مستوى سياسات الدول المضيفة –خارج برامج الإدماج- أو في مستوى التأثير الاجتماعي والثقافي فيما بينها وحولها؟

شكلت موجة المهجرين من ثورات الربيع العربي وخصوصا سوريا كتلة بشرية لها وزنها ووجودها في المهجر الأوروبي بمجتمعاته المرنة والواثقة بنفسها، والحافلة بالتعدد والسعة والقدرة على احتواء وامتصاص وتجيير ما يدخلها؛ ليتطبع بقواعد المجتمع الحديث المعولم والذي لا يسع للفرد فيه إلا أن يكون قطعة صغيرة من ماكينة كبيرة تسير به وبدونه، والتي إن خرج عن نظامها تطحنه دون رحمة، وما العيش إلا مسيرة الأفراد اللاهثين خلف الحياة الراكضة على عجل؛ سعيا لامتلاك أكبر قدر من المال لسد الاحتياجات التي تجود بها وتبثها إمبراطوريات الإعلام، والشركات العابرة لحدود العقل والفرد وحرياته أيضا، وباتت تشكل حتى رغباته، وتصوغها بشكل مباشر وغير مباشر، لكن سؤالا حثيثا يطرح نفسه: هل يمتلك هذا الوجود للكتلة المهاجرة ثقلا سواء في مستوى سياسات الدول المضيفة –خارج برامج الإدماج- أو في مستوى التأثير الاجتماعي والثقافي فيما بينها وحولها؟

الأمر الذي يفتح سؤالا موجها لهذه الكتلة عن مدى إدراكها لوجودها وكتلتها، وعما إذا كانت قادرة أو ساعية لتحقيق ثقل لهذا الوجود؟

وسرعان ما نجد أنفسنا حيال سؤال كهذا وسط تفاسير كثيرة، وفهوم كثيرة عن الكتلة البشرية المذكورة، وعن وعيها لذاتها وتصوراتها عن هذه الذات، بل إنا قد نجد أن تصورنا عنها ككتلة قد يكون افتراضيا أو منتميا لحقبة ما قبل تاريخية أو ليست حداثية بمعنى عدم انتمائها لمفردات وأدوات المجتمع الحديث الحالي في وضعه ومكانه الحالي -أوروبا-، ما يدفعنا للتفكر بمعنى الجالية قبل ذلك لفهم إمكانات التحول الموضوعية التي من شأنها أن تؤسس لمعرفة موضوعنا في شتى جوانبه، فهل نحن أمام جالية منظمة أو تسعى إلى التنظيم والتأطر؟

الكتلة المهجرة قسرا هي كتلة جماعة بشرية منفية من وطنها وفقا لبعض الدراسات الأنثروبولوجية، وتحمل دوافع هجرة مختلفة أثرت في سياقات هجرتها ولجوئها المفاجئ والقسري

لعل مفردة جالية في المجال العام وفي الإعلام غالبا ما ارتبطت بأنشطة منظمة من قبل ناشطين وفاعلين عبر جمعيات ومستويات تواصل وتشارك وتوجيه تعكس تناغما هوياتيا أو ثقافيا أو اجتماعيا، وهي غالبا ما كانت مرتبطة بسفارة الدولة التي تنتمي لها كالجالية المغربية والمصرية والسورية التي تنظمها سفارة النظام، وبالتالي فإن للسفارات دورا في تنظيم قد يكون مؤسسا، أو لاحقا لتأسيس الجالية لنفسها ومؤطِّرا ومساعدا في تنظيمها، وإكساب نشاطها شكلا تنظيميا، ودورا هوياتيا وطنيا قوميا وبعدا اجتماعيا منظما؛ حتى ولو كان تعويضيا افتراضيا وانعكاسا للحنين في وطن مستعار، إضافة لإمكانية تنسيق الجهود بين السفارة كجهة رسمية وبين أبناء الجالية من اقتصاديين ونشطاء يفيدون في الربط بين أوطانهم الأم وبين البلد المضيف، ونظرا لانعدام وجود السفارة في مجال كهذا قد يقول قائل إن التنظيم الذي تحتاجه مجموعة لتشكل جالية منتظمة سيكون صعبا، لكن دافع التنظيم الذاتي لن يعجز السوريين بكل حال؛ رغم أنا قد نثقل على الكتلة البشرية المهاجرة بعد الثورة السورية خصوصا وأنا أمام كتلة مهجرة قسريا وخارجة من حرب لم يخبُ أوارها ولم تضع أوزارها بعد، وما زال كل فرد مشغولا بعائلته ولم شملها وتعلم اللغة والبحث عن أبسط الخطوات للدخول في سوق العمل والاعتماد على الذات، ولعل من الواجب دراسة الدور المرتقب بمناقشة دلالتي القدرات، الدوافع، فعلى صعيد القدرات نجد أنه لا بد من التفريق بين شكلين من الكتل المهاجرة دوليا من حيث شكل الهجرة ودوافعها حيث إن الكتل المهاجرة اختياريا والتي تكاثرت تراكميا شكلت نفسها تدريجيا وهي في حالة رخاء بعد هجرة اختيارية وتهيئة وتحضير وتأسيس واكتسبت القدرة على الحركة والتنظيم الذاتي وبتساوق مع سفارات بلدانها أو بدونه أما الكتلة المهجرة قسرا فهي كتلة جماعة بشرية منفية من وطنها وفقا لبعض الدراسات الأنثروبولوجية، وتحمل دوافع هجرة مختلفة أثرت في سياقات هجرتها ولجوئها المفاجئ والقسري، ولم تستطع بعد أن تستوعب المجتمعات الجديدة وظروفها ولم تصدق بعد أنها خرجت من مجتمعاتها الأصلية وعليها أن تنجز ما هو أكثر من مجرد نجاتها والنفاذ بعائلاتها من الموت، لذا فإن سؤال وعي الذات المهجرة لنفسها يحتاج مرحلة استقرار واستيعاب للوطن الجديد، خصوصا وأن المهاجرين من السوريين القدماء أبناء مرحلة الهجرة الاختيارية وليس التهجير والنفي توزعت انتماءاتهم بين مؤيدين للنظام، وبين نخب مؤيدة للثورة لم تستطع إنشاء شبكة تواصل مع نخب اجتماعية وثقافية من الكتلة المهجرة للتشاور في مستوى التأسيس لعمل جماعي يحمل عبء مطالب الشعب السوري في ثورة الحرية والكرامة، ما يفتح سؤالا عن وعي النخب السورية بنفسها ودورها كحاملة للهاجس الوطني أو الثقافي المجتمعي.