في الحاجة إلى منابر صحفية سورية

2022.09.08 | 06:12 دمشق

الصحافة
+A
حجم الخط
-A

تاريخيًا، وبعد أن استولى نظام البعث على الصحافة السورية منذ العام 1963، صار الكتاب السوريون بلا منابر. سبق هذا الفقد "بروفة" ثقيلة الظل بدأت وانتهت مع الوحدة السورية المصرية بين عامي 1958 و1961.

آنذاك وجد السوريون فرصاً للنشر في بعض الصحافة السورية، وفي الصحف المصرية. لكن استعادة الوجه الليبرالي للوسائل الإعلامية، والذي تم بين انتهاء الوحدة وثورة البعث، كان صعبًا في ظل الاضطراب السياسي، ومحاولات القوى السياسية تجيير العمل الصحفي لصالحها.

لقد انقضى ذلك التاريخ الذي كان للسوريين فيه صحافتهم، وتمت إبادة الفكرة من جذورها، حيث لم يعد من الممكن أن يتصور صحفي مستجد تخرج من كلية الصحافة في نهاية القرن الماضي نفسه مساهمًا في الشأن العام عبر كتابته لتقرير صحفي أو قيامه بإنجاز تحقيق أو كتابة رأي، دون أن يكون ما يكتبه مروضًا ومصوغًا باللغة الأقل ضررًا، أي تلك التي لا تزعج أصحاب القرار، طالما أن هؤلاء يتحكمون بكل شيء في البلاد، وبالتأكيد الصحافة الرسمية تقع تحت براثنهم، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يتناول هؤلاء الذين يمتلكون القوة والسيطرة.

السماح بتأسيس وعمل الصحافة المستقلة منذ بداية حكم بشار الأسد لم يغير فعليًا في حظوظ الصحفيين السوريين، إذ لا يمكن للنظام الشمولي أن يحرص على التحكم في تلك الجهة وأن يترك الجهات الباقية بعيدة عن يديه!

راهن أصحاب القضية على إمكانية إحداث فرق، لكن هذا كان من الأوهام، التي تركت ذكريات سيئة لدى جيل كامل من العاملين في الإعلام، كانت تتقاذفهم فيها مزاجية السلطة والأفكار المضطربة لوزراء الإعلام المتعاقبين، بين سعيهم إلى الحفاظ على مناصبهم، وبما في ذلك من إرضاء القصر الجمهوري، والأجهزة الأمنية، وأيضًا استمرار العمل الإعلامي بأقل الأضرار، وبلا مشاكل.

على مدى عقود كان على الصحافة السورية أن تشهد ظهور أجيال متعاقبة من العاملين فيها، فهي مهنة ككل المهن، وهي في الوقت نفسه ذات طبيعة تجعلها مختلفة لا يمكن أن تقاد فعاليتها إلا من خلال قانونها الخاص، وآليات عملها ذاتها

على مدى عقود كان على الصحافة السورية أن تشهد ظهور أجيال متعاقبة من العاملين فيها، فهي مهنة ككل المهن، وهي في الوقت نفسه ذات طبيعة تجعلها مختلفة لا يمكن أن تقاد فعاليتها إلا من خلال قانونها الخاص، وآليات عملها ذاتها، الأمر الذي يؤدي إلى خلق طرق مختلفة لضخ الدماء في جسدها، وتجديد الأقلام التي تساهم فيها.

طبعًا، سينطبق على الصحف الرسمية الوحيدة، كل ما يحدث في المؤسسات السورية، إذ يتم تعيين الموظفين بموجب العلاقات والدعم، قبل أي شيء آخر، بما في ذلك الحصول على الموافقة الأمنية.

وهكذا، سيصل السوريون في النهاية إلى وجود ثلاثة أو أربعة أنماط من الصحفيين: الأول وهو الصحفي الموظف، الذي يؤدي عمله في الوسيلة الإعلامية دون طموح مهني سوى أن يترقى ضمن المؤسسة ذاتها، والصحفي الطموح الذي يحاول أن يصنع شيئاً مختلفاً في المؤسسة ذاتها، وأيضًا الصحفي الذي يعمل من خارج الملاك عبر نظام الاستكتاب إذ لم يتمكن لسبب ما من الحصول على وظيفة، وهناك في نفس الوقت الصحفي الذي يعمل في وسائل إعلامية خاصة، تتلقى تمويلها من رجال أعمال غالبيتهم يدورون في فلك النظام، وهناك من يعملون في مكاتب المؤسسات الإعلامية العربية والدولية، وبالتوازي مع وجود هؤلاء، كان ثمة كتاب وأصحاب رأي يبحثون دائمًا عن منابر تستقبل ما يكتبونه، وتدفع لهم مقابلًا يسندهم في معيشتهم، وكانوا يجدون فرصًا في الصحافة العربية الخليجية واللبنانية أيضاً.

فعليًا، وبعد ثورة 2011، سيدخل إلى المشهد بالإضافة لما سبق عنصر جديد هم أولئك العاملون في الصحافة البديلة، التي ستبدأ في النهوض منذ 2012، وسينتهي عهدها الذهبي في نهاية 2015، مع بدء تغيير سياسات التمويل التي انتهجتها الدول الأوروبية وكذلك الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي سيدفع بغالبيتهم إلى البحث عن وسائل إعلامية أخرى، وبالتأكيد لن يجد هؤلاء مناصًا من التوجه صوب الصحافة العربية التي باتت بدورها مقسومة بين المحاور الإقليمية، التي تفرض على الوسائل الإعلامية التي تتلقى منها التمويل سياساتها أيضًا.

في المحصلة، انتهى المشهد الإعلامي السوري الراهن إلى غياب شبه كامل للمؤسسة المستقلة في الداخل وفي الخارج، ولنا أن ندرك حجم المشكلة حيث إن أجيالًا بأكملها من الفاعلين في هذا الفضاء ما زالت تعمل، وتقدم مساهماتها، مع معرفة أن هؤلاء لا يمكنهم هجر مهنتهم والتوجه صوب بدائل متاحة!

السوريون بحاجة لمنابر صحفية كثيرة تستوعب الطاقات التي تخرج من بينهم، ولمؤسسات تستطيع أن توفر لهم البيئة الصحية لعملهم، ودون هذا لن يكون بالإمكان توقع حصولهم على فضاءات حرة معتبرة في المستقبل

كان يمكن للجسد الإعلامي الذي نشأ منذ بداية الألفية أن يؤدي دورًا ما على هذه الخشبة فيما لو كانت أدواته مصنوعة خارج دوائر النظام، لكن القلة من هؤلاء نجحت في الإفلات، وتوجهت صوب العمل المستقل خارج البلاد. وكان يمكن منذ بداية الثورة تصور وجود رؤوس أموال سورية ستتجه صوب دعم القطاع الإعلامي، غير أن أصحاب رأس المال سيذهبون إلى مجالات الدعم الطبي والإغاثي، وسينسحبون بالتدريج من أي مساهمات بدؤوا فيها في العمل الصحفي.

السوريون بحاجة لمنابر صحفية كثيرة تستوعب الطاقات التي تخرج من بينهم، ولمؤسسات تستطيع أن توفر لهم البيئة الصحية لعملهم، ودون هذا لن يكون بالإمكان توقع حصولهم على فضاءات حرة معتبرة في المستقبل.