في الجريرة تشترك العشيرة

2020.06.28 | 00:01 دمشق

1017967872_0_0_3778_2044_1000x541_80_0_0_6e045b549f39630d4162189b94afd76b.jpg
+A
حجم الخط
-A

قالت العرب قديماً: "في الجريرة تشترك العشيرة" وعلى ذكر العشيرة ورئاسة العشيرة أنقل هنا شيئاً مما قاله بعض حكماء العرب عن رئاسة الرجال:

"لا تتم الرئاسة للرجال إلا بأربع: علم جامع، وورع تام، وحلم كامل، وحسن تدبير، فإن لم تكن هذه الأربع فمائدة منصوبة، وكف مبسوطة، وبذل مبذول، وحسن المعاشرة مع الناس، فإن لم تكن هذه الأربع، فضرب السيف، وطعن الرمح، وشجاعة القلب، وتدبير العساكر، فإن لم يكن فيه من هذه الخصال شيء فلا ينبغي له أن يطلب الرئاسة".

 تكثر في الفترة الأخيرة اجتماعات "الشيوخ" ومعهم جمع غفير، ممّن يؤمنون بتلك العباءات والمسمّيات، في عموم وادي الفرات والجزيرة، حول بعض القضايا والجرائر المناطقية المحلية، والتي هي ديدن تلك المناطق، فيضربون الخيام، وينصبون المنابر للكلام، ويوقدون تحت القدور، ويسبغون على بعضهم المديح، من خلال أمجاد وانتصارات وبطولات وهمية سالفة وحاضرة، ثم يدخلون في هَرْجٍ ومَرْجٍ لا طائل منه ولا نتيجة، ويهرفون بما يعرفون وما لا يعرفون، فكأنما يحدثون حديث خرافة، كما جرت العادة دائماً، ثم يكللون اجتماعهم بأكل الولائم، وتكون في الغالب هذه هي النتيجة المهمة لتلك الاجتماعات، وإذا ما انفض القوم بعد ذلك منتشين طربين باجتماعهم ذاك، يكون الحديث بعده عن الوليمة، كبيرة أم صغيرة، طيبة أم غير طيبة، كم خروف، أو كم بقرة...!

أكاد أجزم أنه لم يعد هناك ثمة منطق عشائري داخلي لصناعة المشيخة  في تلك المناطق، لقد أصبح الأمر خارجياً، فالمنطق القديم لاختيار الشيخ عند العرب تجاوزه التأريخ بكل تأكيد، والأنظمة مدركة لهذا المنطق، فبدأت هي بصناعة الشيوخ. وهذا موضوع قديم حديث، فثمة شيوخ صنعهم العثمانيون، وشيوخ صنعهم البريطانيون والفرنسيون، والأميركيون صنعوا شيوخاً كذلك، كما هو في العراق. وآخرون صنعتهم حقبُ الأنظمة الشمولية الاستبدادية التي تسمى عبثاً "الجمهوريات"، وما تزال الحال مستمرة على هذا النهج، إلى لحظتنا هذه. كنا قديماً نسمع بفلان شيخ العشيرة الفلانية، وفلان شيخ العشيرة... وهلم جراً، أما اليوم وخلال عشر سنوات مضين ما عدنا نعرف الشيخ من السُّوقَةِ، فلربما لو أحصيناهم عدداً لشكلوا عشيرة بكاملها، وهذا حتى في عرف القبيلة والعشيرة مفسدةٌ وعَطَبٌ بحدِّ ذاته. إن قوة الشيخ اليوم تأتي من قربه من النظام أو أذنابه وحظوته عند الجهات الأمنية من خلال تقديم الولاءات والطاعات.. وعلى قدر هذه الولاءات والطاعات تمتد مساحة القرب أو تضيق.

وهذا ما يفسر موقفَ العشائر ومشايخها من النظام و"داعش" وأخواتها، فليس ثمة موقف موحد لكل عشيرة، بل انقسامات داخلية وصراع زعامات وتنافس على القرب من السلطة. والشيخُ هو الذي يستطيع أن يستجلب المصالحَ والمنافع الشخصية من السلطة، وإن كان على حساب كرامته وكرامة جماعته.

لا يمكن الحكم بالمجمل على الجميع، ولا شك في أنّ إطلاق الأحكام العامة قد يجانب الصواب في بعض التفاصيل، فالحالات الخاصة موجودة في كل مكان وفي كل مجال، لكن كما يقال: القليل كالعدم، وعليه يمكن القول لكثير من هؤلاء: إن وجوهكم الكالحة وعباءاتكم المتشحة بالخزي والعار لا تنم إلا عن خيبتكم ودناءتكم، تكابرون على هزائمكم، وقلة كرامتكم، لأجل عرضٍ من الدنيا، عشر سنوات ما عرفناكم إلا إمعات، تميلون مع كل مائل، وتتلونون مع كل حالٍ، وتهيمون في كل وادٍ، وتساندون ظالماً حاقداً قل نظيره في عصرنا وزماننا، تتسابقون على القرب من أزلامه وطواغيته، وتفاخرون بما تحظون عندهم من مكانة عليةٍ كما تظنون، يا لضحالتكم! وقلة عقلكم! ما أدركتم يوماً أن أهلكم وذويكم وبلدكم أبقى من كل ظالمٍ وطاغية؟ وما عرفتم يوماً كيف يكون الرجال أحراراً؟! أو كيف يصنع الرجال المواقف! لا المواقف تصنعهم، ولا تعلمون أن الرجولة قوةٌ في القول، وصدعٌ وثبات على الحق، ورأيٌ سديد، وكلمة طيبة، ومروءةٌ وشهامةٌ، وتعاون وتضامن!!

إن تعددَ أحوالكم يدل على حالكم عقلاً، لقد سقطتم إلى درجة الالتصاق بالأرض، حساباتكم ومصالحكم الشخصية الضيقة، والتي تريدون أن توقفوا الحياة عندها، جعلتكم لا تدركون أبسط بدهيات الحياة، التي لا شيءَ فيها يدوم، فدوام الحال من المحال، تغييرُها حتميةٌ تاريخية، والحقُّ فيها منتصر ولو بعد حين، يا سادة أنتم بهذا عاطلون معطلون للحياة وعجلتها، تريدونها أن تقف عند مصالحكم الضيقة التافهة، ولكن هيهات، ستكتشفون عما قريب حجم صَغاركم، لم تقدموا ما هو مشرف لأنفسكم أولاً أو لمجتمعكم وبلدكم ثانياً، ما زلتم تجترون أمجاداً وهميةً فارغةً مصطنعة ومزيفة لكم ولأهليكم، ونسيتم أنه بالأمس القريب دعست كل حثالات الأرض على كرامتكم، ومرغت أنوفكم في التراب، وما استطعتم أن تقفوا موقف الرجال، وأنى لكم أن تقفوا؟! تفرقتم كما لم تتفرقوا من قبل، وأنتم الذين تتنافخون شرفاً بالرجولة والمراجل، وما أنتم إلا "بُغاث بأرضنا يستنسرُ"، ورغم أنكم تمتلكون كل مقومات اللحمة والتكاتف والتعاون والتعاضد والترابط بحكم مجتمعكم الذي يعود وينتمي إلى نسيج واحد، ويرتبط بقانون القبيلة والعشيرة، ورغم كثرتكم، إلا أنها غثاء كغثاء السيل. أو كما قال الشاعر:

يثقلونَ الأرضَ من كثرتِهم *** ثم لا يُغنونَ في أمرٍ جَلَلْ

إن تبعيتكم واختياركم أن تكونوا أتباعاً لأناس لا يحملون في الأصل قيمة لكم أو لغيركم، ليس لأنهم أفضل منكم، ولكن لقلة شرفٍ في المقام وفي المقال متأصلةٍ ومتجذرة فيهم، وهذه وضاعةٌ أخرى تُضاف إلى وضاعتكم، صنعتم قيمة لمن لا قيمة له، بينما كانت الفرصة قائمة لكم لتصنعوا مجداً يسطره التاريخ بحروف من نور، كانت قائمة لتقفوا موقف الرجال، وتشيدوا قوة ضاربة يحسب لها ألف حساب، تذود عن نفسها وشرفها وكرامتها، وتحمي بلدها من كل مارق حقير، لكنكم أبيتم، إلا أن تكونوا على الهامش، خارج الجغرافيا والتاريخ، والآن تَسِمون أنفسكم بالمشيخة والوجاهة، ألا تستحون أو تخجلون؟! إن من محاسن هذه السنوات العجاف أنها أسقطتكم وكشفت في أي درك تعيشون. فما ورَّثتم إلا خوارم الرجولة ونواقضها لأبنائكم وأهليكم، وغابت عنكم مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، وعلو الهمم، وشرف النفوس، ولم توطّنوا أنفسكم عليها، التي كانت في العرب جبلّة وفطرة وتربية وسجية، فلا مجد ولا رجولة مع الجبن والوهن والخور، ويحضرني في هذا المقام قول المتنبي:

وإذا كانت النفوسُ كِباراً *** تعبَتْ في مرادِها الأجسامُ

وهذا كلام أصيل أصالة العرب، فإن أحدهم يركب الصعاب، ويضحي بالحبيب والقريب من أجل أن لا يُذمَّ ويرخص نفسه وكرامته، وذلك ما كان يوم كانوا، وهو اليومَ الاستثناء الخاص، والقليل النادر، الذي بات في حالكات أيامنا هذه إشراقاً نرنو إليه ونتطلع لولادته كلَّ فجر.