في أهمية تجديد الفقه الإسلامي

2021.09.02 | 06:54 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

ثلاث قضايا في أزمان متفرقة حرضت لدي فكرة وجوب قيام المختصين في العلوم القرآنية بالمقام الأول وكافة الباحثين والمفكرين المهتمين بالشأن الإسلامي ثانيا،  بإجراء مراجعات جذرية في المنظومة الفقهية الإسلامية برمتها وتنقيتها من بعض الرؤى والأفكار والأحكام المغرقة في التطرف أو التي تتناقض مع منطوق النص القرآني ومدلولاته ومراميه، ومقاربة شؤون الحياة والدين من منظور أن الله تعالى أرسل للبشر خريطة طريق تستجيب – أو يفترض أنها تستجيب – لحاجات المجتمعات وما يطرأ عليها من تطور، وضمن سياق أن هذا الخطاب الإلهي هو خطاب لعموم البشر وليس لفئة منهم فحسب وبالتالي يجب أن يكون متصالحا مع الناس والمجتمعات الإنسانية.  

والحقيقة أن بعضا من المجتهدين والباحثين كالدكتور محمد شحرور والدكتور محمد حبش والمفكر زكريا أوزون والباحث إسلام البحيري والمستشار عبده ماهر، وغيرهم العديد من المفكرين والباحثين  انطلقوا في هذا المضمار منذ سنوات وهو جهد رغم أنه ما يزال يواجه بالرفض من قطاع كبير من المؤسسات الدينية والدرّاس والمجتهدين الذين يرون فيه عبثا بالتراث الديني والفقهي الذي استقر طوال قرون، ولكنه بالمقابل كان أيضا محل احترام الكثيرين ممن يرون فيه تصالحا مع العصر وانفتاحا على المجتمعات الإنسانية تجسيدا لفكرة عالمية الرسالة الإلهية، وقراءة بعقل مفتوح للنص القرآني دون إلزام هذا العقل بالسنة المكذوبة التي يناقض حديثها نصوص كتاب الله، أو بالتراث الفقهي الذي هو نتاج بشري أتى ضمن سياق الأدوات المعرفية للعصر الذي أنتج فيه، وأنه لا شيء يمنع أو يحول دون إعادة التفكر والتدبر وطرح أفكار وآراء لا تهدم النص لكنها تعيد قراءته ضمن سياق الأدوات والمنظومة المعرفية لهذا العصر.

وأما القضايا الثلاث اللواتي قمن بفعل التحريض العقلي للإيمان بهذا الوجوب فأولهن هو ذلك التناقض المفجع بين نص القرآن الكريم وما أسمي سنّة نسبت للرسول صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق (بحد الرجم) كعقوبة لجريمة الزنى التي يرتكبها محصنون(!).

وأما القضايا الثلاث اللواتي قمن بفعل التحريض العقلي للإيمان بهذا الوجوب فأولهن هو ذلك التناقض المفجع بين نص القرآن الكريم وما أسمي سنّة نسبت للرسول

فالقرآن الكريم جاء نصه واضحا في الآية 2 من سورة النور: ((الزانية والزاني فاجلدوا كل منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)) وبالتالي جعل الله تعالى عقوبة الزناة مائة جلدة لا غير ولم يقل برجمهما أو رجم أحدهما أبدا وبالتالي فإن القول بالرجم هو افتئات على الله وتجاوز على حدوده التي قررها في كتابه لا يحق لأحد من بني البشر أن يضيف عليه لا نصا ولا تأويلا.. وأما الزعم بوجود سنّة نسبت للرسول والأخذ بها خلافا لما قضى به القرآن الكريم فهو وجه من وجوه الشرك لأنه يجعل لله ندا في تشريع المحرمات والحدود وهو ما لا يعقل أن يصدر عن النبي فضلا عن أن يقبل به.. وبالتالي فكل ما سيق في هذا المجال أحاديث مزعومة أو آراء فقهية واجتهادات مجتهدين أزعم أنه محض هرطقة فقهية كالكثير من الأحاديث النبوية المزعومة الواردة في الصحيحين والمنسوبة بهتانا للرسول وهي لتهافتها وتفاهتها لا تصمد أمام أي مناقشة عقلية لها.

جعل الله تعالى عقوبة الزناة مائة جلدة لا غير ولم يقل برجمهما أو رجم أحدهما أبدا

وأما القضية الثانية فهي تتعلق بما يمكن تسميته بـــ (فقه الردة) الذي يجمع على منع الإنسان من مغادرة دين الإسلام إلى دين آخر (رغم أنه لا يوجد إلا دين واحد وما نتداوله بعبارة أديان هي في الحقيقة شرائع وليست أديانا) ووصمه بالردة واستباحة دمه وحياته تحت زعم أن (من بدل دينه فاقتلوه)!!!.

وفي هذا السياق أذكر قضية جرت وقائعها في العام 2014 في السودان عندما أحيلت للمحكمة سيدة سودانية ارتدت عن الإسلام واعتنقت المسيحية، وقضت تلك المحكمة عليها بالإعدام بعد رفضها الاستتابة والعودة عن ردتها (!) إعمالا (لرأي فقهي مجمع عليه من جمهور الفقهاء) يقول بقتل المرتد سندا لحديث منسوب للنبي يقول: (من بدل دينه فاقتلوه)!!!.    

مع العلم أن القرآن الكريم لم يلزم أحدا أن يؤمن بالقسر والإكراه ولم يرتب عقابا دنيويا على من غادر دينه وترك أمر عقابه لله تعالى، ولم يرد في القرآن الكريم أي نص صريح أو مجرد تلميح إلى عقوبة دنيوية على المرتد، بل كان الله يتوعد المرتد بعقوبة أخروية فحسب: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) النساء 137، وقوله تعالى (ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب أليم)  النحل 106، إذاً فالله تعالى أناط بذاته العلية مسألة محاسبة ومساءلة المرتد، ولم يقرر له عقوبة دنيوية كما قرر لغيره من الأفعال: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة 217.

وبالتالي كيف يمكن عقلا قبول فكرة (من بدّل دينه فاقتلوه) التي يزعم أنها حديث نبوي شريف، مع ما قاله الله تعالى في الآية  29 من سورة الكهف (.. وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر )؟ أو مع قوله تعالى (لا إكراه في الدين) البقرة 25؟

وبالتالي فإن حديث (من بدل دينه فاقتلوه) الذي أخذه البخاري عن عكرمة مولى ابن عساكر  يناقض مارواه البخاري نفسه عن أنس من أن نصرانيا أسلم ثم عاد للنصرانية ولم يعاقبه رسول الله كما ثبت أيضا برواية عن البخاري ومسلم، أن أعرابيا بايع الرسول ثم طلب منه بعد ذلك إقالته من الاسلام ولم يعاقبه الرسول. 

يقول الباحث الاسلامي الدكتور كمال حبيب أن نصا قرآنيا كـ (لا إكراه في الدين) هو نص قطعي كلي ويمثل قاعدة تفهم في سياقها كل النصوص الجزئية فإن تعارض معه نص جزئي فيجب أن يخضع في تفسيره للنص القطعي الكلي.

يقول الباحث الإسلامي الدكتور كمال حبيب إن نصا قرآنيا كـ (لا إكراه في الدين) هو نص قطعي كلي ويمثل قاعدة تفهم في سياقها كل النصوص الجزئية فإن تعارض معه نص جزئي فيجب أن يخضع في تفسيره للنص القطعي الكلي

وأما القضية الثالثة فهي لا تقل شناعة وفظاعة عما سبق وهي قضية الزوج المصري الذي اكتشف خيانة زوجته له طوال سنين سفره وأن من يفترض أنهم أولاده الذي يشقى لأجل تأمين عيش كريم لهم ليسوا أولاده ولا من صلبه، إشكالية قانونية عندما رفضت محكمة الأسرة دعواه بإنكار نسب الأولاد بعد ثبوت زنى زوجته والحكم عليها وعلى شريكها في الجريمة بالحبس ثلاث سنوات عن جريمة الزنى وثبوت أن الأولاد الثلاثة الذين أنجبتهم ليسوا أولاده بل أولاد العشيق الزاني وفق نتائج تحاليل الحمض النووي DNA حيث استندت محكمة الأسرة برفض الدعوى لقاعدة (فقهية) تقول إن (الولد للفراش)!!! ومؤدى تلك القاعدة الغريبة أن ينسب ولد الزنى لزوج الزانية حتى لو تبين علميا أن هذا الولد ليس من صلب الزوج ولا من مائه!!!.

والحقيقة أني أن استعرضت عشرات الآراء الفقهية ووجدت أن جمهور الـــ (فقهاء) مجمع على تلك القاعدة ومصرّ على إلحاق نسب ولد الزنى بزوج الزانية وهو ليس أباه (!) ويرفض نسبه لوالده البيولوجي (الزاني) حتى لو ثبت لهم علميا أنه الوالد فعلا بزعم (رفض الإقرار بالفاحشة) وآثارها (!!!) البعض القليل من المجتهدين فقط – و أعتقد أن رأيهم هو الأنجع والأصوب من هذا (الإجماع) الغريب عن أي منطق، حيث قال بعضهم بوجوب إلحاق نسب الطفل ثمرة الزنى بوالده الزاني إعمالا لقاعدة (الغرم بالغنم).

تعيدنا مثل هذه الواقعة إلى نقطة غاية في الأهمية وهي أن ما اصطلح على تسميته بالفقه ليس شيئا يعبر عن حقائق ثابتة مطلقة في حجيتها، محصنة من الشطط والخطأ.. بل هي رأي بشري يخطئ هنا ويصيب هناك حتى لو أجمع عليه آلاف مؤلفة من الدرّاس والمجتهدين والباحثين.. ويبقى العقل هو الميزان والفيصل في توكيد أرجحية رأي على رأي آخر أو حتى في استبعاد الرأيين معا واجتراح رأي ثالث قد يكون أقرب للعقل والمنطق واللب السليم.

ما اصطلح على تسميته بالفقه ليس شيئا يعبر عن حقائق ثابتة مطلقة في حجيتها

كل ذلك يؤكد أن ثمة حاجة جدية وملحة لوضع هذا الفقه على طاولة التشريح واستئصال كل الآراء الشاذة منه ورميها في سلة المهملات، بل ولرفض أن يكون هذا الفقه عنوانا مطلقا للحقيقة حتى لو تصادمت قواعده أو خلاصاته ونتائجه مع نصوص القرآن الكريم أو مع العلم وتطور الحياة ومستويات المعرفة البشرية.