فواتير باهظة

2021.02.17 | 00:02 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

تطوي الصحوة السورية صفحة عامها العاشر في ربيع هذه السنة، في الوقت الذي ما زالت فيه أعداد المعتقلين والشهداء تسجل ازدياداً وفقاً للإحصائيات التي وثقتها المنظمات العاملة في الشأن الحقوقي والإنساني.

ربما ما زال الوقت مبكراً على تقديم حسابات الربح والخسارة في ما يخص تحقيق أهداف الثورة من عدمه، ذلك أن الوصول إلى الغايات الثورية قد يحتاج عقوداً، لكن ربما من الضروري أن نقوم بإجراء مراجعات لخطواتنا واكتشاف مكامن الخطأ بين فترة وأخرى.

ومع الإقرار بحدوث تحايلات كبرى بهدف حرف مسار الثورة الذي حصل من القوى العالمية والإقليمية، لكن ذلك لا يعني أننا كنا معصومين عن الخطأ أو أننا لم نقترف أخطاء جعلتنا نصل إلى هذه النقطة من مسار الأحداث.

ربما لم نرتكب أخطاءنا بشكل عمدي لكننا وبحكم عدم الخبرة السياسية في المجتمع السوري، فقد وقعنا في أخطاء لم ندركها أو في أخطاء كبرى حصلت بالامتناع عن فعل وفقاً للغة أهل القانون.

ربما وقع كثير منا أيضاً في فخ إنكار تأثير الدين في المجتمع الأمر الذي شكل نفوراً عاماً من العمل السياسي بين فئات المجتمع والأحزاب اليسارية الأخرى

وبناء على ذلك فإن المجتمع السوري يعد مسؤولاً بأحزابه وتياراته ولو بشكل غير مباشر عن الفشل في تشكيل قيادة سياسية، فاليسار السوري على سبيل المثال الذي كان ناشطاً في العمل السياسي حتى في فترات القمع الأمني، ربما تخلى ولو بشكل غير مقصود عن دوره في العمل على جذب الفئات التي لا تعمل في السياسة، ما جعله مسؤولاً عن ترك الفئة العظمى من الشعب في حالة سبات سياسي بسبب غياب دوره التوعوي.

ربما وقع كثير منا أيضاً في فخ إنكار تأثير الدين في المجتمع الأمر الذي شكل نفوراً عاماً من العمل السياسي بين فئات المجتمع والأحزاب اليسارية الأخرى للتشارك معاً في نهضة البلاد السياسية والاجتماعية، وهذا الأمر أرخى بظلاله بشكل عام على المجتمعات فأصبح الشرخ الذي عملت السلطة على تحقيقه واضحاً أكثر وساهمنا كمجتمعات بفئاتنا كلها بتعزيزه.

وبالتالي فحتى لو كان كل حزب وتيار ينشط في العمل السياسي وفقاً لإيديولوجيته الخاصة إلا أن كلاً منهم كان ينشط بشكل منفرد، فيما لم تكن الرؤى واضحة أو متطابقة لتشكل عملاً جماعياً ينتج عزفاً مشتركا ومنسجماً.

لقد احتفظ النظام الحاكم في سوريا بشماعة جماعة الإخوان المسلمين من أجل تبرير بطشه تجاه الثورة، فجعل من ذلك عذراً مُحلّاً لعنفه في مواجهة الشعب المنتفض، كذلك تذرعت بذلك العذر بعض من فئات الأحزاب اليسارية فبررت به تراجعها أمام تأييد الثورة وتحاشي تغوّل ومواجهة بطش النظام غير المتناهي وفشله في السيطرة على المجتمع.

وعلى الرغم من عدم حقيقية ومصداقية هذه الفكرة فقد انساقت إليها فئات كبيرة من المجتمع، وامتنعت وفقاً لذلك عن تأييد الثورة على اعتبار أنها حراك إسلامي في اتجاه واحد وهذا بالضبط ما كان النظام والسلطة يسعيان إليه.

لا يخفى على أحد أن الثورة لم تقم بهدف أسلمة المجتمع أو لتحقيق مجتمع إسلامي أو للانقلاب على نظام حكم غير إسلامي مثلما يروق للبعض الادعاء، متذرعين بسيطرة الجماعات الإسلامية على الشمال السوري والقيام بعمليات إرهابية لا تنفع أحداً سوى النظام صاحب السلطة الحالية.

لكن الترويج المستمر لهذه الفكرة على المدى البعيد من شأنه أن يعزز أفكاراً تسعى إلى تزوير التاريخ، فالثورة قد قامت لأهداف سياسية ولتحقيق حياة ديمقراطية في مجتمع سوري عادل، وتمت أسلمتها لأسباب يدركها أغلبنا ولنا في لافتات كفرنبل والزبداني وحمص وإدلب وغيرها من لافتات المحافظات في ذلك شواهد.

لقد تحول المجتمع السوري عبر سلسلة من السلوكيات وبالتدريج ربما إلى مجتمع تصنيفي فأصبح كل شخص محكوما وموصوفا وفقاً لهويته الدينية، وأصبح لزاماً على كل شخص منا توضيح انتمائه الديني والمناطقي لوصفه في بطاقة تعريفية مجتمعية ما جعلنا نمارس بعضنا على بعضنا الآخر ما يمكن الاصطلاح عليه بـ "هولوكوست معنوي".

وعلى اعتبار أن الثورة لم تقم بناء على أسس دينية وطائفية فبالتالي إن دين حاكم الدولة ليس مفصلاً مهماً بالضرورة ولم يكن هذا المبتغى الذي يريده السوريون، فأياً كان دين رئيس السلطة أو الحزب الذي ينتمي إليه فمن المفروض ألا يكون ذلك عاملاً في توليه المنصب من عدمه وينسحب ذلك أيضاً على كل وظائف وخدمات الدولة حتى لا يصل بنا الأمر إلى تحقيق ديمقراطية مزعومة قائمة على محاصصة طائفية.

وفي السياق نفسه لا يعنينا كسوريين دين رئيس الدولة طالما أنه وصل إلى الحكم عن طريق انتخابات ديمقراطية، بل إن المهم ألا يمارس حكمه بناء على أفكاره وأيديولوجيته الخاصة مخالفاً بذلك مبادئ الدستور العلمانية والدولة المدنية التي نطمح إليها، طالما أن ما يحكمنا هو دستور موحد جامع مانع للدولة السورية فيما تقتصر مهمة الحاكم على قيادة الدولة وفقاً للدستور لا العكس.

ليس في مقدور أحد إنكار الدور السياسي لليسار لكن ما يؤخذ عليه أنه حصر دوره في مناهضة الاستبداد بشكل عملي، من دون أخذ التوعية الاجتماعية بعين الاعتبار الأمر الذي جعله يكون في ضفة غير الضفة الاجتماعية المغيبة سياسياً، فيما عملت السلطة على تخويف المجتمع المُغيّب من اليسار "الكافر" وتخويف اليسار من المجتمع "الإسلامي المؤدلج"، إضافة إلى بقية الأسباب التي سببت شرخاً اجتماعياً بين المجتمع ونخبه السياسية.

الجهود السياسية انصبت على تغيير السلطة، فكان عملنا متجهاً نحو رأس الهرم متجاهلين القاعدة الشعبية والجماهيرية التي يجب أن نستند إليها لتحقيق ذلك

في طبيعة الأحوال فإن القاعدة الشعبية التي يحاول اليسار التبرؤ منها في الوقت الحالي متهمين تيار الإسلام السياسي بجذبها واحتكاره بذلك الثورة والمجتمع، كانت قاعدة مهمشة بعيداً عن خطط التوعية المجتمعية وتعرضت إلى إهمال وتجهيل متعمد من النظام والنخب العاملة في السياسة على حد سواء.

ومن هذا المنطلق علينا الإقرار بأننا جميعاً نتحمل مسؤولية الفجوة السياسية التي نعيش فيها، وأن علينا السعي والعمل على التغيير ولكن بشكل عكسي، ذلك أن الجهود السياسية انصبت على تغيير السلطة، فكان عملنا متجهاً نحو رأس الهرم متجاهلين القاعدة الشعبية والجماهيرية التي يجب أن نستند إليها لتحقيق ذلك.

إن مهمة النخبة هي النهضة بفئات المجتمع لا التعالي عليها ونفي التهمة عن مسؤوليتهم في رداءة الوضع الذي تصل إليه المجتمعات، فإذا كان ما أودى بالبلاد إلى الحرب هو قلة الوعي السياسي والجهل مثلما يروّج في الإعلام، فإن ذلك تتحمل مسؤوليته النخبة التي سمحت بترك الساحة خالية للاعبين آخرين سيحصدون النسبة الأكبر من الولاءات والتجييش إذا صح التعبير.

من نافل القول أن اعتبار ما يجري على الساحة السورية الآن هو ليس نتيجة أسلمتها أو ما إلى ذلك، لأن اللعبة التي تتكشف خيوطها أكبر من ذلك المنظور، خاصة أنها انتقلت لتخرج عن إطار اللاعبين السوريين وتعدتها إلى حضور لاعبين إقليميين ودوليين أكثر من المواطنين السوريين الذين انتشروا في بقاع الأرض.

وبصرف النظر عن انحراف الثورة أو عما آلت إليه أو بالأحرى عما أُريدَ لها أن تكونه، فإن حركة تغير المجتمعات تعد حتمية تاريخية، فالثورة السورية كانت ستقوم لا محالة، وعلى الرغم من انحراف مسارها واتخاذها منحى مختلف وعلى الرغم من الهزائم الجمّة التي مُنيت بها عربياً وإقليمياً، إلا أنه كان من الضروري تحريك هذا المستنقع الراكد منذ عقود، لتكون لبنة في تشكيل وعي سياسي لدى الغالبية العظمى من فئات المواطنين السوريين، لتحقيق قراءة أكثر وعياً لمواطن الضعف في المجتمع السوري وفي عمل الأحزاب السياسية المختلفة.