فنانو الأسد وانحدارهم: من التشبيح إلى التوسل

2020.07.11 | 00:19 دمشق

438.jpeg
+A
حجم الخط
-A

كانت منصات الإعلام الرسمي طيلة عقد كامل بعد تولي بشار الأسد للسلطة، مشغولة بالدراميين (من ممثلين وكتاب ومخرجين) الذين حولهم النظام إلى نجوم سوريا الأكثر شهرة. بالتوازي مع تغييب شبه كامل لجهود كل المبدعين الآخرين في أغلب المجالات، من أجل أن تلتئم قطع اللوحة المفككة (البازل) على بعضها؛ ثمة نظام بزعيم واحد وحزب واحد، وهناك من يملؤون الفراغات من حولهما، وضمن هذا الجحفل من الأفراد، كان هؤلاء الفنانون يلبسون المساحات المتاحة لهم، كما يلبسون أدوارهم!

كانوا رواة للقصص المأساوية، التي ذخرت بها الدراما السورية في جزء كبير من نتاجها، ولاسيما دراما "العشوائيات" التي كانت أهم ما أنتجته لجهة تعبيرها عن الواقع السوري، كما كانوا (كوميديانات) يُضحكون القائد وأخاه وحاشيتهما، ورؤساء الفروع الأمنية، والجنرالات حينما كانوا يزورونهم في فرق الجيش لأمر شخصي، أو لواسطة!

كما كانوا يهرعون إلى مقابلة الزعماء الذين كانوا يزورون البلاد، فهم واجهة سوريا بحسب ما يريد النظام، ومن ينسى مشاهد الفنانين وهم يحتشدون في "جلسة خاصة" مع العقيد القذافي، حينما جاء إلى الشام في عام 2008 ليحضر القمة العربية آنذاك!

كان الشعور الذي يجمع هؤلاء بغالبيتهم، هو إحساسهم بأنهم متميزون عن شعبهم، وأن حب الناس لهم والاحتفاء الشعبي بما ينتجون، يمنحهم فرصة، أو على الأقل يبرر لهم، ألا يمروا بما يمر به غيرهم من السوريين، فالممثل يستطيع أن يزور مدير أي مؤسسة رسمية، وأن يستغل هذه الحظوة لكي تمر مصالحه فيها!

النظام استغل هؤلاء كما استغلوه بدورهم، فأظهرهم في إعلامه في أدوارٍ تفوق إمكانياتهم وتكوينهم، مرة كمصلحين اجتماعيين، ومرة كرياضيين، ومرة كمرشدين نفسيين، ولو قدر له لجعلهم مهندسين وأطباء وعلماء ذرة وغير ذلك، بعد أن ضمن سيطرة هذا التماهي في السلوك اليومي بين الشخصيات المتهتكة الرخيصة لبعضهم، وبين صاحب السلطة!

لقد نظر رجالات النظام إلى الفنانين على أنهم أدوات صالحة للاستخدام في أي زمان ومكان، فيتم استدعاؤهم إلى شاشات التلفزيون الرسمي والمحطات الخاصة الموالية، ليكونوا سنيدةً للسياسيين، الذين يؤدون أدوار التبرير والمساندة لأفعال النظام!

وضمن هذا السياق يصبح نقيب الفنانين ناطقاً شبه رسمي للنظام، وهو مفوض في غالب الأحيان بمعالجة الشؤون الفنية، دون أن يعود لأحد، فقراره هو قرار الرئيس ذاته! وعليه يتحدد نضال الفنانين في حياتهم العامة على أنه نضال للإطاحة بالنقيب! حيث يوهم هؤلاء الجمهور وربما أنفسهم أنهم يؤدون دورهم السياسي، ولكن هيهات أن يفعلوا شيئاً، فالنقيب مرتبط برأس النظام كما يعتقد هو ومن يدعمه، إنه زلمته الوحيد في دولة الفن الذي يقود جموع الفنانين السعداء، والمستغرقين في مسيرات التأييد والاستفتاء بالدم!

لقد كانت صدمة النظام كبيرة حينما رفض فنانون شرفاء أن يكونوا مطية للحل الأمني، وأن يصبح رصيدهم وحضورهم الفني أداة بيده، ليعمق الفجوة بين السوريين الذين كانوا يشهدون الحدث الأكبر في تاريخهم المعاصر؛ ثورة شعبية تنادي بسقوط الديكتاتورية! وبعد بيان "فك الحصار عن درعا" الذي اصطلح على تسميته ببيان الحليب، لم تعد صورة الفنان السوري كما هي، لقد ظهر أن ثمة من يستطيع أن يقول لا! ولهذا كانت رغبة بعض أركان النظام أن يكون العقاب لهؤلاء شديداً!

لقد أصر الفنانون الثائرون أن يكون لصوتهم إيقاعه الخاص ورنته المختلفة في الحديث عن الذين نزلوا إلى الشوارع ليواجهوا ماكينة القتل اليومية، فتحولوا إلى سجناء مرة، وإلى خطباء في تجمعات تشييع الشهداء، وصاروا يوماً بعد يوم معتقلين! ومختفين! ومطاردين! وملاحقين حتى خارج البلاد، وباتوا مثل غيرهم منفيين!

الإيقاع، والرنة المختلفان لهذه الشريحة من الفنانين، كانا يعنيان قيامها بالعمل على سردية الثائرين الحقيقية، وضمن هذا السياق ستمر معنا أسماء كثيرين ممن ذهبوا إلى احتضان ألم السوريين، لتتجاور جهودهم مع أفعال المبدعين الآخرين في كافة مجالات الإبداع الفني عموماً!

النظر في صورة الفنانين الخانعين المستمرين في التحشيد لدعم رواية النظام، لا يبدو مفيداً ونحن نستعرض مشهد العار الذي أغرقوا أنفسهم به، لقد مضت تحولاتهم عميقاً في كشف بنية ومحتوى العقل الفني السائد المكرس، والمنتظر الذليل على أبواب رجالات ومؤسسات النظام! فمن لحظات التنطح لتخوين الفنان المعارض، ثم توسل العمل مع مؤسسة الإنتاج التابعة لوزارة الإعلام، ومن بعدها المؤسسات الدرامية العربية والمشتركة، وصولاً إلى اللحظة الراهنة، حيث يعتقد هؤلاء أن لديهم دوراً على المستوى الاجتماعي يجب أن يؤدوه: ألا وهو دور الفنان المناشد لرئيسه، كي يلقي نظرة على أحوال شعبه!

فماذا يعني أن يقوم ممثل مثل قاسم ملحو أو غسان مسعود وغيرهما بمناشدة الأسد، بأن الشعب جاع وأنه وصل لحالة سيئة؟

الفنان السوري المناشد وضمن تغربه عن الواقع والسياسة، يراهن على أن سيده الرئيس لا يعرف، وأن من حوله لا يخبرونه عما يحصل! وأنه يحتاج لمن يخبره الحقيقة!

الفنان الذي رباه النظام على طريقته، وعلمه أنه من شريحة فوق الناس، فظن أنه يستطيع أن يكون واسطة بين الجمهور وبين القيادة! فالقيادة لا تعرف، والجمهور عاجز عن أن يوصل قضيته!

لهذا يتنطح الفنان ليقوم بدور ليس دوره، ربما يكون هذا دور الإعلام، أو النقابات أو أي جهة تدعي أنها تمثل الناس! وفي الوقت نفسه ثمة دور للفنان هو أن يقوم بتجسيد هموم هؤلاء الناس في أعماله!

ولكن حينما يستغرق هذا الفنان في ترزقه من أعمال تروي الواقع السوري من خلال سردية النظام، يبقى لديه فقط إحساسه بأنه مميز وأنه فوق الجمهور العاجز المسكين، وأن عليه أن يظهر لهذا الجمهور أنه مهتم به، فيلجأ إلى وضع نفسه في موقع حمال الرسائل!

الطريف في الأمر أن إحساسه بالتميز يفقده السيطرة على نفسه أثناء حديثه عن هؤلاء المستضعفين، وعن حاجتهم لتناول اللحوم، كما فعل غسان مسعود قبل أيام؛ حيث سارع إلى وضع نفسه خارج القصة! فهو نباتي ولا يحتاج للحوم! إنما الفقراء هم من يحتاجون لذلك لأنهم كائنات أرضية، بينما هو من نسل العباقرة أصحاب الأجنحة، وقريب من طائفة الآلهة الغارقين بمشاكلهم الداخلية، المشغولين عن سفاسف القوم من السوقة والعبيد!

 

كلمات مفتاحية