فلسطين.. ميزان قوى جديد

2021.05.16 | 06:29 دمشق

184480.jpg
+A
حجم الخط
-A

كل شعب فلسطين في الميدان. كانت البداية من الشيخ جراح، الحي الصغير في القدس القديمة، والذي لا تتجاوز مساحته 800 دونم. وبدأت الشرارة الأولى من خلال الدفاع عن أربعة منازل فلسطينية يريد المستوطنون الاستيلاء عليها بدعم من الشرطة الإسرائيلية، بدعوى أن ملكيتها التاريخية تعود لليهود. وصادف في هذا الوقت الاستعدادات لإحياء الذكرى الثالثة والسبعين للنكبة التي هي المرادف الفعلي لتهجير الفلسطينيين من ديارهم في الخامس عشر من أيار/مايو 1948، مما أعطى مسألة الدفاع عن الشيخ جراح قيمة رمزية عالية ومضاعفة حركت فلسطين من كل صوب.

كانت المفاجأة في الشباب الذي نزل إلى ساحات المواجهات من كل جهات فلسطين، هو جيل ما بعد أوسلو

في الدفاع عن حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى تجلت الوحدة الوطنية الفلسطينية كما لم تظهر من قبل. برزت وحدة الشعب الذي عملت إسرائيل بشتى الوسائل، وخلال أكثر من نصف قرن، على تحويله إلى أقليات متناثرة. وكانت المفاجأة في الشباب الذي نزل إلى ساحات المواجهات من كل جهات فلسطين، هو جيل ما بعد أوسلو، جيل عشريني ولد مع الانتفاضة الثانية عام 2000 التي انطلقت ضد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك أرئيل شارون للمسجد الأقصى، واستمرت أربعة أعوام. وأكثر ما أصاب إسرائيل بالمفاجأة، قبل أن تسقط عليها الصواريخ القادمة من غزة، هو انتفاضة شعب فلسطين وراء الخط الأخضر، حيث شارك فلسطينيو 1948 بقوة في الدفاع عن الشيخ جراح والأقصى، وهذا ما يفسر إطلاق يد المستوطنين لاحقا في المدن المختلطة مثل اللد، تحت شعار صريح "تأديب" العرب.

والصدمة الكبرى بالنسبة لإسرائيل والقوى الغربية التي ترعاها هو أن معادلة أسرلة الفلسطينيين لم تنجح، ومنذ يوم الأرض في 1976 لم يحصل تحرك في فلسطين عام 1948 على هذا القدر من الحجم والأهمية والسياسية، وإذا كان من رسالة لن تمحى وتبقى درسا لكل العالم هي أن الشعب الفلسطيني داخل إسرائيل متمسك بهويته العربية وأن القضية الفلسطينية حية ولم تطوها حروب إسرائيل، وأن إسرائيل في مأزق كبير، وعليها أن تبحث عن حل لمأزقها بطرق أخرى غير العنف الذي مارسته في غزة وبقية أنحاء فلسطين على نحو مفرط وخارج كل سياق.

الأكثر أهمية هو أن يتواصل الثبات الفلسطيني، وأول ما يجب حسمه هو وضع القدس التي بقيت مؤجلة حتى الآن

العنف الذي تستخدمه إسرائيل منذ بداية هبة القدس وأحداث الشيخ الجراح ليس غريبا عن دولة الاحتلال، وهو أحد الأعمدة التي قامت عليها. ولكن الملاحظ، وبالتدريج، أن العنف وصل مستويات تتجاوز الحاجة إليه، وهذا واضح في سلوك كل الأجهزة، الجيش، والشرطة وحرس الحدود. والخلفية الفعلية هي أن التربية والعقيدة في هذه الأجهزة أن إسرائيل تحكم بالقوة، وأن الفلسطينيين لا يفهمون إلا القوة، والجرعات الزائدة في الأسبوع الأخير من هذه القوة تأتي في سياق استعادة الهيبة وكسر شوكة الفلسطينيين، ولكنها عبر التاريخ كانت آخر ما في جعبة الاحتلال قبل أن يرحل. وهذا ما حصل مع فرنسا في سوريا والجزائر على سبيل المثال.

وفي وقفات الشيخ جراح والأقصى وما تلاها، تبين أن سنوات ترامب كأنها لم تكن. تلك السنوات التي أراد منها أن يغلق ملف القضية الفلسطينية إلى الأبد، ويحول الفلسطينيين إلى هنود حمر بلا وطن وهوية. ومن القدس بدأ الأمل، ويجب أن يبقى هذا الأمل، وألا يتم تبديده لأنه ثمرة هذه الوحدة والروح الوطنية لدى الشعب الفلسطيني. في كل المواجهات التي سبقت كانت النهاية لصالح إسرائيل، يجب ألا يحصل ذلك هذه المرة، وإذا حدث على القضية أن تنتظر عدة عقود كي يولد جيل آخر. هذه الانتفاضة معقود عليها الأمل لنسف أوسلو وما جاءت به من تسوية تم تفصيلها على مقاس إسرائيل، ومع ذلك داس عليها شارون ومن بعد بنيامين نتنياهو. والأكثر أهمية هو أن يتواصل الثبات الفلسطيني، وأول ما يجب حسمه هو وضع القدس التي بقيت مؤجلة حتى الآن. هذا هو الوقت المناسب طالما أن البيت الأبيض أعاد التأكيد على أن "موقفنا أن حل الدولتين هو الحل الوحيد للصراع".

نحن أمام ميزان قوى جديد، ليس بفضل دخول القوة العسكرية من غزة للمعركة التي هي بلا شك عامل مساعد ماديا ومعنويا، ولها دور أساسي في هز أسطورة التفوق والكيان الآمن، وأغلب الظن لم تكن مفاجأة لإسرائيل على حد تعبير وزير الحرب الإسرائيلي بني غانتس الذي قال "ما يجري في الداخل أخطر من صواريخ حماس". وصلت الرسالة وهي أن إسرائيل ليست دولة بل قوة احتلال في فلسطين، ليس في الضفة الغربية فقط، بل في فلسطين 1948 التي قال أهلها بصراحة نحن مواطنون فلسطينيون في إسرائيل. هذا -بعد 73 عاما على قيام إسرائيل- يطرح سؤالا كبيرا حول حاضر هذا الكيان ومستقبله.