فلسطين في ذكرى الاستقلال

2021.11.20 | 03:03 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

مرَّت قبل أيام، وتحديدًا في الخامس عشر من الشهر الجاري، الذكرى الـ 33 لـ "إعلان الاستقلال"؛ ففي الخامس عشر من شهر نوفمبر، أعلن الرئيس الراحل ياسر عرفات استقلال فلسطين، وبموافقة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية. جاء ذلك الإعلان للاستقلال، كتتويج للانتفاضة الشعبية الفلسطينية؛ انتفاضة الحجارة، التي اندلعت في الضفة الغربية وقطاع غزة، أواخر عام 1987، فأظهرت للعالم بشاعةَ قوَّات الاحتلال المدجَّجين بالسلاح، أمام أطفال الحجارة، وسائر فئات الشعب، العُزَّل؛ فأحدثت تعاطُفًا عالميًّا، مع الشعب الفلسطيني ومعاناته، وذكّرت العالمَ بالاحتلال الذي لا يزال جاثمًا على أرضه، وقابضًا على مُجريات حياته، ومانعًا حقَّه في تقرير مصيره.

لكن الاستقلال الفعلي بقي بعيد المنال، ولم يتحقَّق من معانيه إلا الأمور الرمزية، وعملت دولة الاحتلال، على تأبيد احتلالها، وسيادتها، على فلسطين كاملة، وفوق ذلك ضاعفت من ممارساتها الاحتلالية والاستيطانية والتهويدية، وهي الآن، تسير في خطواتٍ عملية حثيثة نحو تحقيق "الدولة اليهودية"، وابتلاع أراضي الضفة الغربية، وخصوصًا المناطق المصنَّفة "ج"، في الوقت الذي تعمل فيه، باستمرار، على تثبيت السلطة الفلسطينية كنوع من الإدارة الذاتية، التابعة للاحتلال، والمفتقرة إليه دومًا، بالتوازي مع تهويد القدس، وتكريس سلطتها على المسجد الأقصى؛ تمهيدًا لفرض السيادة الاحتلالية عليه.

كان الأمل، عند البعض، أنْ ينجح ياسر عرفات في المزاوجة بين التفاوض والعمل العسكري، ويُستدَلُّ على ذلك بانتفاضة الأقصى، عام 2000

ولذلك ينبغي التحذير من المبالغة في تضخيم تلك (المكتسبات الرمزية)؛ للتغطية على الإخفاقات السياسية والوطنية الخطيرة. وهنا نستذكر أقوال الشاعر الفلسطيني محمود درويش التي جاءت في افتتاحية لمجلّة الكرمل كان عنوانها "مَرْثيَّة لسلام لم يولد بعد"، حيث قال: "نحن لا نعاني من عُقدة رمزية، لنعالجها بطريقة رمزية، كأنْ نقبل مقايضة السيادة برموزها، والأرض باسمها الجميل. إنّ العلَم الذي يرمز إلى استقلال بلادنا ليس هو الاستقلال. كما أنّ النشيد الوطني ليس بديلًا عن الوطن". [الكرمل، العدد 58، شتاء 1999]. كما نستذكر أسطره:

"ما أوسع الثورة!

ما أضيق الرحلة!

ما أكبر الفكرة!

ما أصغر الدولة!" [ديوان محمود درويش، الأعمال الأولى]

كان الأمل، عند البعض، أنْ ينجح ياسر عرفات في المزاوجة بين التفاوض والعمل العسكري، ويُستدَلُّ على ذلك بانتفاضة الأقصى، عام 2000، وبكتائب شهداء الأقصى، وهي مجموعة عسكرية تابعة لحركة فتح، عملت ضدَّ قوَّات الاحتلال، أسَّست في أثناء انتفاضة الأقصى، ولم تكن بعيدة عن ياسر عرفات.

لكن التموضع الفلسطيني داخل دولة احتلالٍ مغايرةٍ لدولٍ استعمارية أخرى؛ بادِّعاءاتٍ دينية توراتية، وبموقعٍ مكينٍ لدى الدول الكبرى الغربية، وأميركا على وجه الخصوص، والمتحصِّنة بدورها الوظيفي، (كما أوضح الدكتور عبد الوهاب المسيري)، إذ "أُسِّست للاضطلاع بوظيفة الدفاع عن الحضارة الغربية، وقيامها يُجسِّد الفكرة الصهيونية، باعتبارها حركةً استعمارية وجزءًا لا يتجزَّأ من التشكيل الاستعماري الغربي". بالإضافة إلى الخذلان العربي الرسمي، علاوة على الارتهان لقيود اتفاقية أوسلو، كلُّ ذلك جعل من التعويل على نتائج كبرى للكفاح المُسَلَّح، بعد قيام السلطة الفلسطينية، ومن داخل فلسطين، أمرًا أقرب إلى المغامرة، وخصوصًا ممّن اعترفوا بإسرائيل، وتعهَّدوا بنبذ العنف ضدّها.

هذا، فضلًا عن الضعف الداخلي لكيان السلطة الفلسطينية، وقلَّة كفاءة القيادة الفلسطينية، وتبعية الفريق التفاوضي لقيادة السلطة الدكتاتورية، كما أشار إدوارد سعيد... هذا حرَمها من الالتفاف الجماهيري الواسع، ومن الثقة الكبيرة التي كانت، ولا تزال تحتاجها، في حال قرَّرت المواجهة مع دولة الاحتلال؛ بتحمُّل تبعات تلك المواجهة؛ من ضغوط اقتصادية، وغيرها.

كانت اتفاقية أوسلو، عام 1993، والاتفاقات اللاحقة لها هي الأساس الذي أجهض الحلم الفلسطيني، وهي القيد الذي قيّد المطالب والحقوق الفلسطينية، ذلك حين لم يجرِ التطرُّق إلى قضايا الحلِّ النهائي، وهي قضية اللاجئين والحدود والقدس، والمستوطنات، والمياه... فكان أن نشأت السلطة الفلسطينية، التي أمكن لقادة دولة الاحتلال تجميدها، لتبقى كيانًا وظيفيًّا، عاجزًا عن استكمال ذاته، ومفتقدًا لأهم عناصر السيادة والاستقلال، وهي الأرض، والموارد، والعلاقات الخارجية الطبيعية؛ فالمعابر  تحت سيطرة الاحتلال، وحركة الاستيراد والتصدير لا تجري إلا بشروطه، وإجراءاته، فالحالة مُعلَّقة؛ لا هي دولة مستقلَّة، ولا هي احتلال مباشر يتحمَّل مسؤولياتِه، فلو كانت دولة لأمكنها الاحتكام على ثروات الأرض، ومقدَّراتها، وبما أنها أعفت دولة الاحتلال من صورتها السافرة، فقد استراحت من بعض الانتقاد العالمي، بالقياس إلى ما قبل قيام السلطة، وإنْ كانت هجماتها المتواترة تردُّنا إلى صورتها المعهودة والواضحة، وأراحت اتفاقيةُ أوسلو الاحتلال أيضًا من الكُلَف المالية، والتبعات التي يفرضها القانون الدولي من رعاية الصحة والتعليم، وما شاكل، بل إن دولة الاحتلال صارت تتخلّى حتى عن بعض بنود الاتفاقيات المبرمة، بخصم جزء من الأموال المستحقة للسلطة بذرائع متجددة، وثالثة الأثافي أنها بعد الخصم والاقتطاع تطلب، مثلًا، من أميركا الضغطَ على الدول العربية والأوروبية؛ لتقديم الدعم المالي للسطلة؛ خوفًا من انهيارها، وتداعيات ذلك على استقرار الحالة الأمنية في الضفة الغربية، كما أوردت صحيفة هآرتس، مؤخرًا.

حدث الانقسام، صيفَ 2007، وانتهى بحكومتين، واحدة في الضفة الغربية بقيادة فتح، وأخرى في غزة، بقيادة حماس

وبعد هذه السلطة المنقوصة التي حصل عليها الفلسطينيون، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ لتفقد السلطة، بعد ذلك، قدرتها، ووجودها في جزء من الأرض الفلسطينية المحتلة، هو قطاع غزة، ذلك حين حدث الانقسام، صيفَ 2007، وانتهى بحكومتين، واحدة في الضفة الغربية بقيادة فتح، وأخرى في غزة، بقيادة حماس، ولم يقتصر الأمر على هذا الانقسام، إذ حدث انقسام داخل حركة فتح نفسها؛ تيَّار بقيادة الرئيس محمود عباس، وتيَّار بقيادة القيادي المفصول من حركة فتح، محمد دحلان، وأخيرًا حدث انقسام آخر، عشية محاولة إجراء الانتخابات للمجلس التشريعي، ثم الانتخابات الرئاسية، حين فُصِل ناصر القدوة، عضو اللجنة المركزية في فتح، من الحركة؛ إثر تشكيله "الملتقى الوطني الديمقراطي"؛ ليخوض به الانتخابات، خارج قوائم فتح.

وللمفارقة، فإن هذا الوهم بامتلاك سلطة سياسية تورَّطت فيه فصائلُ فلسطينية غير حركة فتح التي قاد زعيمُها مسيرةَ التفاوض، وأفضت إلى هذه الأوضاع المريحة لدولة الاحتلال، هذا الوهم تورّطت فيه، بدرجات متفاوتة، فصائلُ من منظمة التحرير، مثل الجبهة الشعبية، ومن خارج منظمة التحرير، وهي حركة حماس، التي قبلت، عمليًّا، بالاستظلال بمظلَّة أوسلو، بدخولها المجلس التشريعي، ثم بمشاركتها في حكومة السلطة، وأصبح حكم حماس في غزة مَكْمَن ابتزازٍ لها؛ من خلال الحصار والتضييق على أهل القطاع، بالرغم مِن فارقٍ مهم، بين حماس وفتح، وهو احتفاظ الأولى بورقة المقاومة، في محاولة منها للمزاوجة بين العمل السياسي والعمل العسكري؛ كونها لم تتعهَّد، (كما منظمةُ التحرير)، بنبذ العنف، لكن حُكْمَها المفتقر إلى مقوِّماته الحقيقية، جلَب متاعب مضنية لأهل غزة؛ ما دفَع غيرَ قليل منهم إلى تجشُّم الموت؛ غرقًا في البحر؛ بحثًا عن آفاق للعيش؛ بعد عدّة مواجهات عسكرية غير متكافئة مع دولة الاحتلال، لم تنجح، حتى الآن، في فكِّ الحصار، ولا في إكساب حماس الشرعية الدولية؛ تلك الشرعية التي لم تمنح منظمة التحرير كثيرا من التفوُّق أمام دولة احتلاليَّةٍ لا تأبه كثيرًا بالقانون الدولي، ولا حتى بالرأي العام العالمي، ما دامت تحظى بدعمٍ أميركي مطلق، وما دامت تتفوّق نوعيًّا، ليس على الفلسطينيين، فقط، بل على دول عربية محيطة، وما دامت نظُمٌ عربية مطبِّعة، (وحتى مدّعية للممانعة) وطامحون في السلطة يتسابقون إلى إحراز دعمها.