فلسطين عنوان رئيس في أعلى الصفحة

2020.09.24 | 00:15 دمشق

2020-09-18t111007z_295347360_rc2z0j95yqeh_rtrmadp_3_israel-palestinians-violence_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا أدري إن كانت قد مرت على الصحافة العربية لحظة مشينة في تاريخها، مثل قيام كل من رئيسي تحرير صحيفتي الاتحاد الظبيانية ويديعوت أحرونوت الإسرائيلية، بكتابة الافتتاحية للجريدة الأخرى، فيكتب نطع ليفنه للقراء الإماراتيين افتتاحية بعنوان "السلام عليكم"، بينما يكتب حمد الكعبي للقراء الإسرائيليين افتتاحية بعنوان "للتاريخ"!

في الواقع، يترافق إعلان التطبيع بين دولة الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، وبين الكيان الصهيوني، مع حالة مفجعة للصحافة العربية، والتي تضم في ثناياها كل أنواع نشر الأخبار (مرئي ومسموع، ومكتوب مطبوع، وإلكتروني)، قوامها تقلص عدد هذه الوسائل، واضمحلال بعضها، بعد أن بقيت تصدر لعشرات السنين، وتغير سياسات ما بقي منها، بحيث تضمن استمراريتها، طالما أن موارد التمويل، انزاحت، خلال نصف قرن تقريباً، من الاعتماد على البيئات الاقتصادية المحلية، في بلدان المشرق عموماَ، إلى تركزها في بلدان الخليج العربي، التي كانت وما زالت تتمتع بوافر اقتصادي، لا يقارن حتى بأسوأ أحواله، مع اقتصاديات البلدان التي أفقرها فساد الأنظمة الدكتاتورية العسكرية التي حكمتها، كمصر وسوريا!

الآن، وبعد أن بات التوجه إلى التطبيع مع الإسرائيليين، واقع حال، يتم فرض معطياته على أفراد وطبقات وشرائح الشعوب كلها، وليس على نخبها الاقتصادية والسياسية والثقافية فقط، ومع غياب المنابر الصحفية الوطنية، في البلدان التي اشتغل فيها المطبعون على هزيمة شعوبها الثائرة، يصبح السؤال عن خلفيات ومؤديات السيطرة على الإعلام العربي، وضرورة خلق مؤسسات مستقلة قولاً وفعلاً واجباً!

لقد عاش الفلسطينيون والعرب، تجربة السلام بين مصر وإسرائيل في نهاية السبعينيات من القرن الفائت، وتجربة اتفاقيات أوسلو ووادي عربة بين عامي 1993و 1995، لكن الأصوات المرتفعة التي صدرت من مقالات وكتابات التيار الرافض للسلام غير العادل، كانت تقول وبشكل واضح، أن فرض التوقيع على الأوراق برعايات كبرى من الدول المتحكمة بالسياسات الدولية، لا يعني أن ثمة علاقات طبيعية ستنشأ بين الطرفين! ولا يؤدي إلى تهيئة البيئة لهذا الأمر، طالما أن ثمة إمكانية للتذكير الدائم بوجود الحقوق المسلوبة، وكلما بَعُدَ حصول الفلسطينيين على العدالة، صار السلام مجرد عبارة مسموعة أو مكتوبة، يمكن طيها وتجاوزها!

لم تكن المنابر العربية التي رفضت مشاريع السلام غير العادل، مملوكة كلها للحكومات، بل كانت مستقلة، ولكنها تحصل على دعم من هنا أو هناك، تتيحه لها التعارضات بين سياسات الدول!

بعض هذه المؤسسات كانت قد وجدت مساحة لها في السبعينيات، ضمن فضاء العاصمة اللبنانية بيروت، ولكنها اضطرت للهجرة إلى المنافي الجديدة، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، الذي اضطر عدداً كبيراً من المثقفين والإعلاميين العرب إلى الرحيل! 

هنا نتذكر كيف كانت المجلات العربية التي تصدر من أوروبا أو قبرص، تفتح أبوابها للمثقفين العرب، المعارضين للأنظمة الحاكمة، كي يعبروا عما يعتمل في دواخلهم، تجاه القضية الفلسطينية، وغيرها من القضايا العامة أو القضايا الخاصة المحلية.

كان ثمة منابر تدعو للسلام المزعوم، يعمل صحفيوها وفق أزرار التحكم السلطوي، ولكن مقابل هؤلاء كانت ثمة منابر لا تتبع الأنظمة، ويتسع مجالها للرفض!

كان هناك صحفيون بنوا تاريخهم المهني بالتوازي مع نضالهم من أجل قضايا وطنية، تبدأ بتحرر الشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، ولا تنتهي بالحرية والعدالة للشعوب العربية المقموعة!

وتاريخ الخسارات الصحفية العربية، لا سيما من فقدوا حيواتهم من هؤلاء الصحفيين، الذين قضوا اغتيالاً على يد إسرائيل، أو على يد مخابرات الدول العربية القمعية، من غسان كنفاني حتى جمال خاشقجي، يوضح كيف تم التمهيد، للحظة العربية الراهنة المخزية!

وصولاً إلى اليوم، حيث يبدو المشهد الإعلامي قاتماً، وبشكل مريع، إذ تقلص الفضاء الصحفي العام، ليصبح مجرد قطعة جبنة تتناهشها الدول الممولة، وتلاشت حرية العاملين فيه، وأمسوا يعيشون الحيرة، ينتظرون المصير المحتوم!

فحينما يتم توقيع معاهدات السلام، يكون هؤلاء وغيرهم مضطرين لأن يصمتوا عنها، إن لم يكونوا مجبرين على الترحيب بها!

لم تكن المنابر العربية التي رفضت مشاريع السلام غير العادل، مملوكة كلها للحكومات، بل كانت مستقلة، ولكنها تحصل على دعم من هنا أو هناك، تتيحه لها التعارضات بين سياسات الدول!

وبينما تتيح دولة الاحتلال الإسرائيلي، الحريات حتى لمعارضي خطوات السلام المزعوم من بين الإسرائيليين، تقوم الدول الموقعة معها على معاهدات السلام بكتم أصوات المعارضين، وربما زجهم في السجون!

وعندما يعثر المرء على منابر صحفية تعارض مشاريع السلام الراهنة، لصالح محور يرفضها لأنها لا تتماشى مع مصالحه الراهنة، كالصحف والمواقع المدعومة من إيران ومحور "الممانعة"! لن يضطر لبذل الجهد كي يدرك أن مفهوم القضية الفلسطينية لدى هؤلاء، لا يعني سوى قدرتهم على استخدامها، وجعل حقوق الفلسطينيين ورقة على طاولة التفاوض، بينهم وبين الإسرائيليين ومن خلفهم الدول الكبرى الداعمة لها!

يظن قادة موجة التطبيع الراهنة، أنهم وبعد حملة طويلة، استمرت لفترة طويلة، جُففت خلالها الوسائل الإعلامية المتاحة لإعلان رفض السياسات المهادنة، عبر الإغلاق، وتملكِ الباقي منها، لتصبح ناطقة بأفكارهم وتوجهاتهم، أو على الأقل ممالئة لهم!

يظن هؤلاء أن التيار العريض من الكتاب والمثقفين العرب، والذي ما زال يعلن رفضه لهذه السياسات، سيكون مضطراً بدوره لأن يصمت، تحت ضغط الحاجة!

أو سيوافق عليها، تحت ضغوط المطالبات بالتعقل!! وترك تجربة التطبيع الراهنة تأخذ مداها! وفق ادعاء القائمين عليها! فهؤلاء ما انفكوا يصرحون بأن خطوتهم هذه ستفرض معطيات جديدة، تقود إلى الحقوق الفلسطينية، وتعود بالنفع والرفاه على شعوب المنطقة!

ماذا يملك المشتغلون بالكلمات من أدوات متاحة يمنعون بها الردم المقصود لمعنى وجوهر قضية فلسطين؟ وبماذا سينكؤون ذاك التورم الممتلئ كذباً ودجلاً مارسه النظام العربي الرسمي باسم فلسطين على الشعوب؟

يحتاجون قبل أي شيء إلى منابر جديدة، يتم خلقها الآن، تفسح المجال لأفراد التيار الرافض لواقع الحال العربي، ليعيدوا تشكيل صفوف قضيتهم الوطنية الأولى، بعد أن أثبت واقع الهزائم المصطنعة، أن التحرر الوطني يبدأ وينمو ويزدهر بالحريات! بعد تاريخ هائل من القتل والقمع والاستهانة بالآمال والطموحات!