فلسطين تؤسس لربيع عربي جديد.. متغيرات استراتيجية سياسياً وشعبياً

2021.05.30 | 06:26 دمشق

0-6-730x438.jpg
+A
حجم الخط
-A

نقاط كثيرة وأسئلة أكثر يمكن تسجيلها على هامش معركة غزّة والانتصار الذي حققته المقاومة. خصوصاً أن ما جرى يأتي في توقيت بالغ الأهمية وتتداخل فيه عوامل كثيرة فلسطينية داخلية اجتماعية وسياسية وانتخابية، وعوامل خارجية عربية وإقليمية ودولية، على إيقاع مفاوضات فيينا والعراق.

كل هذه العوامل قابلة للتداخل والتشابك مع بعضها البعض، وعليه لا بد من تسجيل الملاحظات والتساؤلات التي لا بد من التفكير بها ومراقبتها في المرحلة المقبلة، لمتابعة تداعياتها:

أولاً، بدأت المعركة اجتماعية، إعلامية وسياسية، نابعة من مفهوم التشبث بالأرض والدفاع عن حي الشيخ جراح وعن القدس عموماً، وهذا الصراع الأزلي الذي يخوضه الفلسطينيون منذ ما قبل النكبة إلى اليوم ومؤكد أنه سيستمر. طوال هذه السنوات لم ينجح أي طرف في نزع الهوية الفلسطينية من الفلسطينيين، وهذه المعركة أبرز الأمثلة على ذلك، والتي أدت بنتيجتها إلى تكامل سياسي وجغرافي في كل الأراضي الفلسطينية من الضفة إلى أراضي الـ 48 إلى غزة. وقد دخلت غزة في المعركة نصرة للشيخ جراح ولمنتفضي الـ 48.

ثانياً، المعركة الأساسية التي هددت الإسرائيلي هي المعركة البشرية والإنسانية في أراضي الداخل من خلال هبة الفلسطينيين، والتي تتمثل بأكثر من نقطة، ديمغرافياً، سياسياً، ثقافياً، واجتماعياً، ستكون الغلبة فيه إلى الفلسطيني الذي لم يخرج من أراضيه منذ ما قبل النكبة، ولن يخرج اليوم، وبالنسبة إلى معيار التشبث بالأرض والتعايش مع الضغوط فمن الواضح أن الفلسطيني يتمتع بهذه الميزات أكثر بكثير من الإسرائيليين الذين بالتأكيد يفضلون الهروب إلى مناطق أكثر استقراراً، كما أن معظمهم لديه جوازات سفر أجنبية قد يستخدمها للذهاب إلى أوروبا أو أميركا أو غيرها.

ثالثاً، معركة غزّة أصابت إسرائيل بأكثر من ضربة، عسكرياً من خلال مدى الصواريخ وضرب تل أبيب ومناطق ومواقع حيوية واستراتيجية، بالإضافة إلى الجانب العسكري في الاستمرار بإطلاق الصواريخ وعدم قدرة القوات الإسرائيلية على منع المقاومة من الاستمرار في إطلاقها.

بعد العمل على إقناع العالم بأن صفقة القرن نفذت وأصبحت ناضجة بتوافق دولي إقليمي عربي وتكامل كثير من العناصر، أثبت الفلسطينيون أنها ليست كذلك

هذه النقاط الثلاث تقود إلى خلاصة واحدة وهي أن لا يمكن لشعب أن يفقد الأمل، وقابلة للتأسيس لمواجهة جديدة من التحركات الشعبية داخل فلسطين، وحتى خارجها في استعادة قوى الشارع العربي لاستنهاض هممها والعودة إلى الدخول في ثورة ربيع عربي جديد، يفترض أن تكون الجماهير كما القوى السياسية قد تعلّمت من التجربة السابقة والتي أدت إلى نتائج كارثية عليها في مختلف الدول، كذلك بالنسبة إلى الأنظمة التي يفترض فيها أن تطورت في آلية التعاطي مع التحركات الشعبية العربية، والتي لا يمكن كبتها أو إخمادها أو عسكرتها أو تدميرها وتنتهي، بل ستتحول وتتطور وتأخذ أشكالاً متعددة. والأهم أنه بعد العمل على إقناع العالم بأن صفقة القرن نفذت وأصبحت ناضجة بتوافق دولي إقليمي عربي وتكامل كثير من العناصر، أثبت الفلسطينيون أنها ليست كذلك وهذا سيعطي فرصة كبرى للشعوب للتمسك بأملها، بشرط الذهاب إلى تطوير نفسها سياسياً وثقافياً لإعادة استنهاض نفسها والاستمرار في معركتها. وما ينطبق على فلسطين ينطبق بالذات على سوريا.

أما في المعيار السياسي والاستراتيجي، بلا شك أن عوامل كثيرة تداخلت مع بعضها البعض، وذلك يمكن له أن يتبدى في خطاب حماس وقادتها، الذين وجهوا الشكر إلى كل من مصر وتركيا وقطر وإيران. وبالرغم من الاختلافات الكثيرة بين هذه الدول، إلا أنها التقت على مصلحة وحيدة وهي الاستثمار بهذه القوة الفلسطينية لتحقيق أهداف سياسية وإستراتيجية، فإيران مثلاً تجنبت أي معركة تصعيد إسرائيلية بوجهها لتعطيل الاتفاق النووي، إيران كما الولايات المتحدة لم تكونا في وارد الرهان على هذه المعركة وإطالتها بل أرادتا انتهاءها سريعاً كي لا تؤثر على مسار فيينا، وكان واضحاً التوجه الأميركي في هذا الصدد والذي استعجل إنهاء المعارك. وبالرغم من ذلك فقد تبنت إيران الانتصار في إطار تحسين شروطها وموقعها في اللعبة.

أما مصر فقد كانت اللاعب الأبرز هذه المرّة على الساحة، وهناك تحول كبير في المسار المصري على المستوى الاستراتيجي، أدى في النهاية إلى نجاح مصر في إرساء وقف إطلاق النار، ولكن ذلك مرّ بجملة تطورات، أولها لا بد من الإشارة إلى أن غالبية الأسلحة التي وصلت إلى حماس وصلت عبر مصر، بما فيها الصواريخ البعيدة المدى والتي طالت أهدافا أساسية، ثانياً كان الموقف المصري واضحاً في دعم حماس والـ 48 والشيخ جراح، من خلال الخطب في المساجد، أو إرسال المساعدات والفرق الطبية. أما الأهم فكان لعبة التوازن الاستراتيجي التي حاولت مصر إرساءها، من خلال رسالة ضرب تل أبيب، أو المطارات، وإعاقة عملها، فكانت ردود مصرية على "تطويق إسرائيل لقناة السويس" منذ حادثة الباخرة وصولاً إلى مشروع قناة بن غوريون من إيلات إلى العقبة لاستبدال قناة السويس بها، ولم تخل الرسائل المصرية من الردّ على "التلاعب" الإسرائيلي بالأمن القومي المصري من بوابة إثيوبيا وسد النهضة، مع تسجيل اعتراض مصر على صفقة القرن وعدم القدرة على تحملها. وليست التوجهات بالشكر من قادة حماس إلى مصر إلا لتصب في هذا السياق، وسيكون هناك مزيد من التطور في العلاقات.

أيضاً قطر وتركيا كان لهما دور بارز في العمل على وقف إطلاق النار ودعم الفلسطينيين، والسعي للوصول إلى تسوية لا تؤدي إلى هزيمتهم، وكان واضحاً التكامل في المواقف المصرية والتركية والقطرية، على إيقاع مساعي تحسين العلاقات وترتيبها.

هنا لا بد من طرح جملة أسئلة واقعية على المدى المتوسط والبعيد، وأسئلة افتراضية نابعة عن النوايا والتمنيات. النوع الأول من الأسئلة يرتكز حول ما سيكون عليه الوضع بعد اتفاق وقف إطلاق النار، وكيف ستكون ردة فعل الإسرائيليين في القدس وكل أراضي الـ 48 بعد الانتفاضة الفلسطينية المصغرة والتي تشكل تهديداً كبيراً للإسرائيليين في داخل كيانهم؟ الغلبة هنا واضحة للعرب، ولكن قد تقود إلى ردة فعل إسرائيلية عنيفة بنزعة عنصرية معتادة من خلال ممارسات التهديد والتهجير مجدداً، أو ارتكاب جرائم ومجازر بحق الفلسطينيين، الأمر الذي سيؤدي إلى ردة فعل فلسطينية أكبر تُدخل إسرائيل في حرب أهلية، تتنامى كل مقوماتها وهنا لا يمكن إغفال الصراعات السياسية والعرقية داخل الكيان.

بالرغم من كل الخيبات يبقى هناك أمل في إنتاج حركة سياسية سورية جديدة، قادرة على فرض نفسها سياسياً وعسكرياً

أما السؤال الثاني الذي ينطلق من دوافع التمنّي، وهو ماذا لو كان هذا التقارب والتنسيق المصري، التركي، القطري والسعودي الذي انعكس في الفترة الأخيرة في فلسطين، ويستكمل بحوارات جانبية لإصلاح العلاقات البينية، متوفراً في السنوات الفائتة بما يتعلّق بالثورة السورية. ألم يكن العرب قد نجحوا في فرض وجودهم ونفوذهم بسواعدهم في سوريا، التي أصبحت حالياً تتقاسم مناطق النفوذ فيها، قوات تركية وروسية وإيرانية وأميركية وسط غياب كامل للعرب؟ بلا شك إن السؤال ينطلق من حرقة كبيرة، وبالرغم من كل الخيبات يبقى هناك أمل في إنتاج حركة سياسية سورية جديدة، قادرة على فرض نفسها سياسياً وعسكرياً، تستثمر بكل واقعية بهذه التقاربات والأبواب المفتوحة، لتفرض نفسها على أجندة المباحثات، وتعمل على جذب الاهتمام لإعادة الاعتبار لنفسها وتكوين خط سياسي جديد يكون شريكاً في أي مشاورات تحصل، ويفرض نفسه على كل المسارات، بشكل لا يتمكن أحد من استثنائه واختزال المفاوضات مع النظام.