فرصة الأزمات الحالية للثورة السورية

2018.11.24 | 23:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عندما اشتعلت الثورة السورية في آذار 2011 دون أن تنتظر دعماً إقليمياً، أو ضوءاً أخضر دولياً، كانت في قمّة ألقها، حيث لم تعتمد في بداياتها وشهورها الأولى إلا على حناجر صدحت بالحرية وأنامل خطّت لافتات الشعارات الأصيلة لمارد سوري قرّر أن يستفيق ويتحرّر من قمقم "سوريا الأسد": "الشعب السوري ما بينذلّ، نحنا بدنا الحرية.. إسلام ومسيحية.. ودروز وعلوية، بدنا حرية وما بدنا جنسية، لا سلفية ولا إرهاب ثورتنا ثورة شباب، ثورة شعبية وليست حرباً أهلية، عاشت سوريا ويسقط الأسد".

وعندما تأسست أولى التنسيقيّات الثورية، وأوّل التنظيمات الثورية الشبابية، كان الهاجس الأساسي تنظيم التظاهرات وتنسيق وتوحيد رسائلها وهتافاتها والتأسيس لحالة التفاف حول الثورة السورية وصياغة محدداتها وأهدافها ومواثيقها، دون الأخذ في الاعتبار خطط تلقي الدعم أو البحث عن التمويل أو السعي وراء الشرعية الدولية، الأمر الذي عزّز قيم التضامن الوطني والاعتماد على الموارد الذاتية، كما حصّن استقلالية القرار الثوري. ومع تسرّب وهم الانتصار السهل والبسيط والسريع إلى بعض النفوس، واستعجال قطف ثمار تضحيات السوريين بل والتسابق في ذلك الموسم الذي اعتقده البعض موسم القطاف، بدأ المشهد الاستثنائي بالتحوّل والتبدّل تدريجياً من لوحة سورية خالصة حرّة تعجّ بالتفاصيل المتنوعة لأطياف الشعب السوري إلى أخرى يحتلّ معظم ملامحها النفوذ الدولي وتقاسم المصالح في محاولةٍ لطمس المعالم الأولى للثورة السورية. فهل مازال بإمكاننا أن نحيل الأزمات المتعاقبة التي وسمت هذا التحوّل إلى فرص؟

ثم تعقّدت الأزمة بفعل المجتمع الدولي لتصبح أزمة البحث عن التمثيل الكافي الوافي للثورة السورية

من تلك الأزمات التي تعاقبت خلال السنوات الماضية للثورة، أزمة التعجّل في البحث عن بديل نظام الأسد ووهم محاكاة الحالة الليبية الذي دفع لتشكيل أول مؤسسة سياسية استدعتها حجّة المجتمع الدولي لحاجته لجسم تمثيلي يخاطبه ويدعم الثورة من خلاله، الأمر الذي سبق واستبق العمل الحقيقي والجادّ لفرز قيادةٍ من رحم الثورة تعطي الأولوية لترتيب البيت الداخلي وبلورة المشروع الوطني بما يتجاوز الشعارات العامة ويتجذر عميقاً في الحراك الثوري وبرامج عمله. ثم تعقّدت الأزمة بفعل المجتمع الدولي لتصبح أزمة البحث عن التمثيل الكافي الوافي للثورة السورية، وبدء مسلسل "توحيد المعارضة وضرورة تمثيل كافة مكونات الشعب السوري"، والذي استدعى نهج المحاصصة والتقاسم حتى وصلنا إلى الدرك الذي تتدخّل فيه الدول بشكل مباشر بعمليات التوسعة والترشيق في بعض أجسام قوى الثورة والمعارضة، وتساهم بالانقلاب على مؤسسات سابقة وتضع الفيتو على بعض الشخصيات، ليصبح تمثيل الثورة مستلَباً وقائماً على تحالفات شكلية وتفاهمات سطحية فرضتها الدول لتتحكّم بها وبمآلاتها. 

بإمكان حراك التنسيقيات الثورية الذي اشتعل من جديد وأحيا شعارات ثورة الحرية والكرامة والاستقلال، أن يحيل الأزمة الحالية تلك إلى فرصة إعادة بناء التمثيل الحقيقي للثورة واستعادة زمامها على أرضية أكثر نضجاً وعمقاً وتجذّراً واستقلاليةً، والتأسيس وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني الذي يلبّي طموحات السوريين ليصبح هو الناظم والحامل الأساسي الذي يلتف حوله الملتزمون به بعيداً عن الأشخاص والأسماء والمسميات، وحيث لا بدّ أن تُعطى الأولوية للمشروع قبل الشروع بالهيكلة. 

ومن تلك الأزمات أيضاً أزمة شحّ مصادر التمويل المتاحة لمؤسسات الثورة وفقدان الدعم الدولي، والذي ارتبط في أغلب الأحيان بأجندات الدول والجهات المانحة المتعارضة والمتضاربة بطبيعة الحال، مما ساهم بتقسيم وانقسام حوامل الثورة من منظمات مجتمع مدني ومجالس محلية وهيئات ثورية ومؤسسات وتنظيمات سياسية، رغماً عن خديعة المطالبة بتوحيد قوى الثورة والمعارضة. يُضاف إلى ما سبق اضطرار المؤسسات الثورية السورية التي تحاول الاستمرار في ضمان دعم مشاريع الثورة إلى اتباع موجات "الموضة" التي تحدّدها الجهات المانحة وترسم خطوطها المسارات الدولية وتحوّلاتها، لتتبدّل المشاريع وتتغيّر البرامج ابتداءً من العمل على "اليوم التالي وسوريا المستقبلية"، مروراً ب "العدالة الانتقالية"، وصولاً إلى "العملية الدستورية وإعادة الإعمار وعودة اللاجئين"، وبذلك لم تخطو تلك المؤسسات الخطوات الضرورية لفرض أجنداتها السورية، ولم تتمكّن من بناء قدراتها بشكل تراكمي مؤسساتي يحتاج إلى نهج الاستمرارية بدلاً من الانقطاعات والانعطافات التي تعيدها في كل مرة إلى نقطة البداية. 

من شأن إرادة وطنية حرّة مازالت متوفرة في روح من يقبض على جمر الثورة ولا يستسلم لترف اليأس، أن تحيل الأزمة تلك إلى فرصة الخلاص من سياسة الولاءات والبحث عن صندوق دعم وطني والتأسيس للقرار الوطني المستقل ولخطة عمل استراتيجية تعتمد على أجندة الثورة وتصنع موقفاً موحّداً ضاغطاً يعيد الاعتبار إليها، بل ويعمل على فرضها بدلاً من الانسياق وراء أجندات المانحين. هي الإرادة الحرّة التي تعلن عن نفسها ثورية غير حيادية في توجهاتها ومواقفها، فتُخرج بذلك منظمات الثورة المدنية من الفخّ الذي نصبه لها المجتمع الدولي: فخ تحييد المجتمع المدني السوري كشرط أساسي لاستحقاق دعمٍ دولي مسيّس. 

لا يمكن المرور على محاولة توصيف بعض الأزمات التي يمرّ بها المشهد السوري الحالي دون الحديث عن حجب الدعم العسكري عن فصائل الثورة

لا يمكن المرور على محاولة توصيف بعض الأزمات التي يمرّ بها المشهد السوري الحالي دون الحديث عن حجب الدعم العسكري عن فصائل الثورة بداعي الوصول إلى "اتفاقيات خفض التصعيد" التي تشابه في كثير من تفاصيلها ونتائجها هدن الإذعان والاستسلام المسماة "الهدن المحلية"، ذلك الدعم الذي افتقر إلى وجود سياسة واضحة ومنهجية شفافة من المفترض أن تتلاءم مع استراتيجية عسكرية هي الأخرى غائبة ومُغيَّبة، لتصبح سياسة "لا غالب ولا مغلوب" هي المستنزِفة الطاغية على المشهد العسكري والمحرِّكة للعمليات العسكرية وخطط توجيه الدعم ممن أطلقوا على أنفسهم لقب "أصدقاء الشعب السوري". ومع انعدام التوازن بين العزوف عن الدعم الفعلي للثورة عسكرياً وبين الدعم المطلق الذي يقدّمه حلفاء نظام الأسد لجرائم بطشه واقتحاماته وسياسة الأرض المحروقة المعتَمَدة من قِبَله، عادت مساحات شاسعة من المناطق المحررة لسيطرة النظام ووكلائه دون أدنى تحرّك من "حلفاء" الثورة والمعارضة. 

وعلى الرغم من كل ما سبق، تبقى هي فرصة لاستعادة توازن الثورة السورية بعودة الحراك السلمي المدني الذي ينتفض اليوم في وجه كافة أشكال الاحتلال والاستبداد: استبداد الأسد والاستمرار بالمطالبة بإسقاطه ومحاكمته، واستبداد التنظيمات المتطرفة، كما الوقوف في وجه التغوّل السابق للعسكر. وهي فرصة أيضاً لمراجعة خطأ تفلّت الحراك العسكري من أي مظلة سياسية أو مدنية وانجرار بعض قياداته لأجندات داعميه، وخطيئة تحميله أعباء إيديولوجية ومشاريع سلطة وتقاسم نفوذ، وخطايا سياساته وغياب الاستراتيجية. تلك المراجعة الحقيقية لعلها بدأت لدى بعض من يتبنى اليوم بواكير مقاومة شعبية وحرب عصابات ضرورية لقضّ مضجع نظام الأسد ووكلائه المحتلين.

وفي أزمة تراجع دعم الشرعية الدولية للثورة السورية فرصة إعادة الاعتبار للشرعية الشعبية الحقيقية التي يحتاجها الحل السياسي العادل بوصفها الحامل الفعلي الوحيد لتطبيقه، كذلك هي فرصة صناعة وإنضاج المشهد السوري الحقيقي البعيد عن المشهد الرسمي الحالي في أزمة عدم نضوج المشهد الدولي واعتماد دول صنع القرار خطوات تجريبية وتفاهمات جزئية لا ترقى لمستوى الحل المستدام. وهي فرصةٌ في أزمة المحاولات الحثيثة لإشاعة وفرض روحية هزيمة الثورة واعتماد خيار اليأس والاستسلام، فرصة الخلاص من شوائب عالقة بمسيرة الثورة: التبعية، الانتهازية، التفرّد، الاستبداد، التعطّش للسلطة، لتكسب الثورة نقاءها ممن علق بها من المنضمين إلى صفوفها لمجرد القفز من مركب أسديّ غارق إلى سفينة استسهلوا نجاتها دون أي جهد فعلي أو تضحية حقيقية، فنراهم اليوم يتراجعون عن مسار الثورة ويتعايشون مع وهم تحقيق الممكن بل ويعملون على بيعه.

فهل من مشروع سياسي وطني، وخارطة طريق، وأدوات عمل وفريق ثوري يحيل الأزمات إلى تلك الفرص؟