فخّ الاستهلاكية.. وحين الضرورات أمنيات

2021.11.06 | 05:21 دمشق

photo_2021-10-17_18-37-15.jpg
+A
حجم الخط
-A

شهدت أسعار المواد الغذائية الأساسية ارتفاعًا ملحوظًا وخطيرًا، على المستوى العالمي، وفقًا لمؤشِّر منظَّمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)، بلغ متوسِّط مؤشِّر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الأغذية قرابة 130.0 نقطة في سبتمبر/أيلول 2021، بزيادة قدرُها 32.1 نقطة (أو 32.8 في المئة) عن مستواه خلال الشهر نفسه من العام الماضي. هذا في مجمل السِّلَع الغذائية الأساسية، ووفق المؤشِّر نفسه، ارتفعت أسعارُ بعض السلع إلى أكثر من الثلث، خلال الفترة نفسها (مدة عام) كما كان في أسعار الزيوت النباتية بنسبة 60 في المئة تقريبًا من مستواه، في وقت سابق من السنة.

ومع أن الغلاء ظاهرة عالمية، إلا أن البلاد الأكثر ضعفًا، والأقل كفاءة في تدابيرها العلاجية الداعمة للفئات الفقيرة، والمتضرِّرة، تظهر فيها الآثارُ المؤلمة على نحو أوضح، وأوسع نطاقًا.

وفي البلاد العربية المحكومة بنظُمٍ مستبدَّة مفتقدة للشرعية، لا مانع من استخدام الغلاء في إعادة الشعوب إلى بيت الطاعة، أو في إشغالها؛ حتى الإنهاك، في ملاحقة أساسيَّات الحياة. وفي الوقت الذي تعاني فئاتٌ واسعة من الفقر المُهَدِّد للحياة، تعاني قطاعاتٌ أخرى، على صلة غالبًا، بالطبقات الحاكمة من تُخْمة الاستهلاك، لتتعدَّى تلك الحالةُ الاستهلاكيةُ الرغباتِ الطبيعية إلى اتِّخاذها علامةً، أو سببًا للتفوُّق الاجتماعي، والسيطرة. إذ الأمر يتعلَّق، وفقًا للمنظّر السياسي غايتانو موسكا، بموازين القوى، داخل المجموعة التي تحيط بالحاكم، وبالمؤهِّلات الأخلاقية التي يتحلَّى بها أفرادُها؛ فإذا ما سادَ الفساد، وعدمت المسؤولية، لدى القادة، تحوّل ذلك التردِّي إلى الطبقات السُّفْلى.

السعي الحثيث لامتلاك المال ووسائل الإشباع مسألة راسخة في التكوين الإنساني، ولكن الرأسمالية جعلت ذلك أمرًا مؤسَّسيًّا

ومهما يكن، فإن ارتهان الشعوب والأفراد إلى الاستهلاك؛ معيارًا للحياة، ينطوي على خطأ فادح؛ حين يصبح الشعور بالسعادة، أو الرضا، مرهونًا بمقدار ما يُحَاز من أموالٍ قادرةٍ على تحقيق أكبر قدرٍ من الإشباع المادِّي للحاجات الإنسانية التي لا تكاد تتوقَّف، أو تُحَدّ، وعليه، يصبح هذا الارتهانُ للاستهلاك أداةً فعّالة بيد أصحاب السلطة؛ بالمنح، أو بالمنع. وفي هذا يرتضي الإنسانُ أنْ يكون وجودُه، أو تحقُّقه الإنساني مرهونًا بأمرٍ خارجيٍّ، لا سلطةَ له عليه.

على أنَّ السعي الحثيث لامتلاك المال ووسائل الإشباع مسألة راسخة في التكوين الإنساني، ولكن الرأسمالية جعلت ذلك أمرًا مؤسَّسيًّا، يقول ماكس فيبر، في كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية": إنّ "الرغبة في الكَسْب"، "البحث عن الربح"، عن المال، عن أكبر كمية ممكنة من المال، كلُّ ذلك ليس له أيُّ علاقة بالرأسمالية. مستخدمو المقاهي، الأطباء، الحوذيُّون، الفنَّانون، العاهرات، موظفُّو التجارة، الجنود، اللصوص، الهُجَناء، حُماة البيوت المشبوهة، المتسوِّلون، كلُّهم يمكن أن يكونوا مسكونين بهذا التعطُّش للكسب، على غرار ما حصل مع أناس مختلفي ومتنوِّعي الظروف، في كلِّ العصور، وفي كل الأزمنة.. غير أن جميع هذه الخصوصيات في الرأسمالية الغربية لم تأخذ، في التحليل الأخير مدلولها، إلا بعد أن أضيف إليها التنظيم الرأسمالي للعمل، كما ارتبط بها ما يُسمَّى عمومًا "التَّتْجير"، أيْ تحويل كلِّ شيء إلى مادَّة للتجارة". فـــ"على الرغم مِن صحَّة أنَّ الأكل والشُّرْب والتناسُل هي وظائف إنسانية أصيلة، (كما يقول كارل ماركس)، إلا أنها عندما تُجَرَّد من كلِّ المناحي الأخرى للنشاط الإنساني، وتتحوَّل إلى غاياتٍ نهائية وحصرية، فحينذاك تكتسي طابعًا حيوانيَّا".

فهناك فخاخ في الانقياد إلى الاستهلاكية، من قبيل التحوُّل إلى عبودية الجسد، ومتطلَّباته التي لا تكاد تنتهي، وكذلك أنْ يصبح الاستهلاك، أو الاقتناء، مطلوبًا لحاجات غير عملية، للفخفخة والتباهي. لذلك فإن الرغبة في الاستهلاك تتعدّى الاندفاعَ الطبيعي، إلى أن تتعالق مع الاعتبارات الاجتماعية، وحيازة المكانة والشرف. وفي حالاتٍ غير قليلة، وخصوصًا في بلادنا العربية التي تستحوذ فيها السلطاتُ الحاكمةُ على مجمل الحياة الاقتصادية والاجتماعية يصبح هذا الغنى الفائق مرهونًا بعلاقات مميزّة ونافذة مع تلك السلطات السياسية.

وفي حين عانت قطاعاتٌ من الشعوب العربية من وطأة الاستهلاك، بالارتهان له، والمتابعة المُنهِكة، عانت أكثر تلك الشعوب من الحرمان منه، وهو في الحالتين صارفٌ عن إدراك معنى الوجود الإنساني...

إذ من الطبيعي، بل من الضروري، أحيانًا، أن يطارد الإنسان ما يفتقده، فافتقاد الشيء، أو الحرمان منه مَدْعاة إلى تقدُّمه في سلَّم المطالب، فكيف إذا كان هذا الحرمان من حاجات الإنسان الحيوية، كالطعام والشراب والسكن، والعلاج، أو ما أصبح من ضرورات الحياة، كالكهرباء والوَقود، للتدفئة، وللتنقُّل، وغيرهما؟ لكن الخطورة، ومَكْمَن التغرير في أنْ لا يعود بمقدور، الإنسان، سلوكيًّا، التفريق بين ما يتوجَّب السعي لامتلاكه، وما يمكنه الاستغناء عنه، ولا سيما حين يكون الثمن حريته، وكرامته.

حين ثارت الشعوب العربية تطالب بالكرامة والعدالة لم تكن في حالة إشباع لتلك الحاجات الحيوية، حتى إنها أدرجت من ضمن المطالب: "عيش حرية كرامة"، ولكن بعد أن تعسَّرت ولادةُ التغيير المفضي إلى تلك الحقوق، لم يقتصر الأمر على فَقْدِها، فقد كانت مفقودة، من قبل، ولكن أُخفِض السقفُ أكثر؛ ليصل، على نحو أكثر خطورة، إلى الوقوع في دوَّامة الطعام والشراب والمأوى والعلاج، بل إلى مجرَّد البقاء في الوطن، ليُجبَر الناس، سواء بوعي، أو دون وعي، إلى مجاراة تلك الحالة، بالمطالبة والسعي إلى ضرورياتٍ أصبحت عزيزة، وعزيزة جدًّا، في كثير من الأحيان والبلاد العربية، كسوريا، ولبنان والعراق، ومصر، واليمن، وحتى تونس وليبيا، غيرها، حتى من البلاد العربية التي لم تنخرط في الربيع العربي، مثل الأردن، وغيرها.

أكثر السوريين يرفضون- برغم ظروف الإيواء القاسية- المغامرة بالرجوع إلى سوريا، حيث لا ضمانات، في ظل النظام الذي لم تتغيَّر عقليته، ولا أساليبه

وكأنَّ الحالة انتقامية؛ فبرغم أنَّ الاضطرابات تؤثِّر طبيعيًّا، على انتظام توفير تلك المطالب، وبرغم أن العالم يشهد حالةً اقتصاديةً صعبة، إجمالًا، إلا أننا لا نلحظ غياب تلك الحاجات متأثِّرا بظروف عارضة، اضطرارية، تزول بزوالها، أو يرجع منها ما أمكن إرجاعُه، فعودة اللاجئين الذين اضطروا إلى فقْد وطنهم، ومساكنهم، من السوريين، مثلًا، ليست مضمونة؛ مجرَّد العودة ليست مضمونة، وهي تعادل في حالات كثيرة القتل، أو السجن.

ونظرًا لكون الحالة السورية هي الأكثر تمثيلًا، في منطقتنا فإنها تصلح إيضاحًا لهذا الحق الطبيعي المضيَّع؛ فأكثر السوريين يرفضون- برغم ظروف الإيواء القاسية- المغامرة بالرجوع إلى سوريا، حيث لا ضمانات، في ظل النظام الذي لم تتغيَّر عقليته، ولا أساليبه. ووفقا لتقرير لصحيفة "لوفيغارو" (Le Figaro) الفرنسية؛ للصحفي الفرنسي الخبير في شؤون الشرق الأوسط، والمقيم في بيروت، مورييل روزلي، لم يذكر أنه يخطِّط للعودة إلى سوريا، في الأشهر الـ12 المقبلة، سوى 5% فقط، أمَّا من يفكِّرون في ذلك خلال العامين الآتيين، فنسبتهم أقل من 30%. ونسب الكاتب هذا الاتجاه لتحقيق استقصائي، أجراه على 3 آلاف لاجئ سوري، في لبنان، مختبر سياسة الهجرة بجامعة ستانفورد الأميركية.

وكأن تلك النظُّم البوليسية الظالمة والفاسدة والناهبة لخيرات البلاد ومقدَّراتها، لم تشأ أنْ يعود الناس، من حيث بدؤوا، بل أرادت أن تُشعرِهم بالندم والحسرة على تلك الحياة التي ثاروا لتغييرها، ومن جهة أخرى أُرِيد لهم أنْ يكونوا (عبرة) لغيرهم، من الشعوب التي آثَرَت السلامة؛ فتلوذ بالحمد؛ أنها حافظت على (عقلانيَّتها)، وحفظت (مكتسباتها).. وصار ما حلَّ بسوريا وأهلها، مثلًا، يُضرَب، للتحذير، وللتخدير.

وفي المقابل، فإن وصول الحاكم الفاقد للشرعية، أو المشكوك في أهليَّته، إلى درجة اللعب بحاجات الناس الأساسية، ومساومتهم عليها، وتعذيبهم بها، مؤشِّر على ضعفٍ خطير فيه، وإفلاس، وعلى الاضطرار إلى رهانٍ أشبه بالمغامرة. فالدواعي للثورة، حينئذ، تزداد، وهي حين تحدث تكون أخطر وأوسع وأعمق وأكثر شراسة؛ إذ إلى أيِّ حدٍّ يمكن للشعوب أن تتكيَّف، مع هذا الحرمان، والإجحاف؟