عود على بدء

2021.08.08 | 06:43 دمشق

3a6fee0c-6f9d-47fa-86c8-5c1047797a88.jpeg
+A
حجم الخط
-A

ها نحن نعود إلى البدء، إلى اللحظة الأولى الفارقة التي غيرت مسار الطريق السوري، إلى أول الحكاية التي أخذت بيدنا نحو الحلم.

وكأن الوقت لم يمضِ والظرف لم يتغير، عادت بنا الذاكرة إلى لحظة اقتحام العربات المدرعة مدينة درعا وقصف الجامع العمري، كان المشهد مؤلماً للغاية في وقتها وما زال، ما جعلنا نقف مذهولين وكأن قوة هائلة حطت فوق أكتافنا فمنعتنا من الحراك.

لقد تحققت نبوءة آبائنا بأن ما سيفعله النظام اليوم في درعا أو في بقية المحافظات سيفوق ما فعله في حماة في ثمانينات القرن الماضي، لم نكن لنتخيل ذلك طبعاً، بل حتى إننا بالغنا في التفاؤل فاستبعدنا ذلك السيناريو تماماً معتقدين أن الشرط قد تغير وأن الظرف الدولي لم يعد مؤاتياً لارتكاب المجازر، وعوّلنا على ازدهار مناخ الحريات الذي كنا نفترض وجوده.

بدأت النقاشات في وقتها تأخذ منحى مختلفاً وتشعبت الآراء بين من يؤيد الخيار العسكري وبين من يرفضه، في وقت بدأ فيه فريق يتراجع بخطواته شيئاً فشيئاً ويفضل الحياة الآمنة على المغامرة بمستقبل بات مجهولاً بعد تلك اللحظة الفارقة.

كانت فئة المتفائلين قد بدأ يخفت صوتها وتحول الأمر مع الوقت إلى ساحة حرب مفتوحة، لم يعد فيها صوت العقل قادراً على السيطرة على الموقف، وتوقف كثير منا في ذلك الوقت عن لوم جيل آبائنا إذ حذرونا من مغبّة ما نحلم به لأنه لو كان في إمكانهم تحقيقه لما توانوا عن ذلك.

لقد توقف الزمن منذ عشر سنوات وبقيت الحالة الشعورية المسيطرة ذاتها وبقي طعم الخذلان هو أكثر ما يميز لون أيامنا الحالية

تومض اليوم المشاهد القديمة في الذاكرة بين لقطة وأخرى، يبدو ما نشاهده الآن من مشاهد في درعا وكأنه قد حصل معنا سابقاً، ولكننا نبقى غير مصدقين هل مرت عشر سنوات بالفعل وما زلنا نشاهد مشاهد قصف درعا على الشاشات بكل بساطة؟

عادت إلينا مشاعر العجز والغضب والقهر التي ظننا أنها تلاشت بفعل عوامل الزمن، غير أن ذلك يبدو أنه لم يحدث، لقد توقف الزمن منذ عشر سنوات وبقيت الحالة الشعورية المسيطرة ذاتها وبقي طعم الخذلان هو أكثر ما يميز لون أيامنا الحالية.

ليس الخذلان الذي نقصده من العالم فحسب لكن ما نعنيه هو خذلان أبناء البلد لأشقائهم في الوطن، ذلك أن "ظلم ذوي القربى أشد مضاضة"، فكيف ننتظر تحقق العدالة من المجتمع الدولي إذا كان أبناء البلاد الواحدة مختلفين حول هوية القاتل. 

ربما بدأت حكاية الشقاق السوري ــــ السوري بطلب الفزعة لدرعا منذ القصف الأول لأحيائها السكنية، اعتقد أهل المدينة بذلك أنهم يجمعون الرأي العام وإخوة المصير للوقوف في وجه الآلة العسكرية، فتلقوا الصفعة الأولى وما زال أثرها مؤلماً حتى الآن، وكان لذلك النداء أن بانت سوءة البلاد على مرأى من الجميع، ووضح للعالم أن كذبة المجتمع المتماسك ليست سوى شعار نردده أمام وسائل الإعلام.

لبّت النداء في ذلك الوقت بعض المدن وانتفضت ونالت نصيبها من البطش والتهديم، في حين اصطفت المدن الأخرى في خندق آخر ورفضت الانضمام إلى حالة الثورة القائمة لأسباب مختلفة.

مثلما بقي أثر الصفعة الأولى واضحاً ومؤلماً على وجه درعا، بقي أثر (الخيانة المفترضة) لدى النظام منها، وبات ينتظر الفرصة للانتقام وأخذ ثأره القديم من المدينة الأولى التي اجتمع أبناؤها في وجهه وعجز عن اللعب معهم على الوتر الطائفي.

كان من الواضح أنه لم ينسَ ذلك الثأر خاصة أن درعا في اتفاقها مع روسيا بما يخص المصالحة، كانت حاسمة في منع وجود النظام في داخل المدينة ولم تعد تعتبره ممثلاً أو حاكماً للبلاد وفي ذلك ما يسقط عنه الهالة الشرعية أمام الجميع.

إن ما يحدث الآن في المدينة لا يمكن إلا أن يكون دليلاً على أن حكاية الثورة التي عوّل كثيرون على انتهائها لم تنته بعد

استطاعت درعا في الفترة التي لم يكن النظام موجوداً فيها تحقيق إدارة جيدة في شؤون الحياة المدنية في المدينة، وهذا ما تسبب بغيظ النظام أضعافاً مضاعفة لا لأنها جزء من البلاد ككل أو لأنه يحرص على سوريا موحدة بحسب ادعائه، وإنما من أجل كسر شوكة أهل المدينة أولاً ولأن ذلك بدأ يسبب له إحراجاً على الصعيد الداخلي والدولي ثانياً، والأهم من ذلك كله الثأر لانتقامه القديم لأنها كانت المدينة التي ومضت فيها الشعلة الأولى.

إن ما يحدث الآن في المدينة لا يمكن إلا أن يكون دليلاً على أن حكاية الثورة التي عوّل كثيرون على انتهائها لم تنته بعد، وأن العقد الذي انقضى لم يسجل الانتصار للنظام وأعوانه مثلما يزعمون، وأن كثيرا من المدن الأبية مثل درعا قادرة على قلب الطاولة في وجههم ووجه حلفائهم لأن روح الثورة فيها لم تنطفئ حتى اللحظة بالرغم من الدمار والإذلال المستمرين، وبالرغم من ادعاء الانتصار الكاذب.

الحقيقة الجميلة في هذا الأمر أنه لا يمكن أن يختلف اثنان على أن الحراك القائم في درعا اليوم، بقدر ما يحبس الأنفاس خوفاً على أهلها من بطش جديد، بقدر ما يحيي ذلك الأمل الذي بدأ بريقه مع الوقت بالتلاشي، والأهم من ذلك كله، أنه يسطر اسم هذه المدينة الجميلة في التاريخ لأنها أكثر من حافظ على حلم الثورة وهدفها.

كلمات مفتاحية