عندما يستوي الموت والحياة

2021.09.06 | 06:07 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

سأكتب بعيداً عن أي تنظير، وبكثير من العاطفية، وربما قليل من الموضوعية. ويمكن وصف ذلك كحالة وجدانية، أو صرخة روح؛ وأنا أرى أن هذا العالم يستنفر إذا حُوصِرَت قطة في غرفة مُقفَلة، ولا يرف له جفن؛ والسوريون عامة يُحاصرون ويُقتَلون ويشَرَدون في "هولوكوست" لا ينتهي.

من الآخر الآخر الآخر، كسوريين في الخارج قبل الداخل- وباستثناء البعض- لقد تساوت الحياة مع الموت. فالسوري يسمع كثيراً: ["أصبر، أصبر، أصبر؛ والصبر مفتاح الفرج"]. لا، وألف لا؛ لقد ملَّ الصبر منّا. يعيش السوري غريباً، حتى ولو كان مع مَن يحب؛ فما بالك بمَن فقد مَن يحب، ويعيش في غربة!!

في أحسن أحواله، كسوري في الخارج، ربما أخَذَ جنسية البلد الذي لجأ إليه؛ والأكثرية العظمى مازالوا بإقامات مؤقتة؛ على الأقل لا تسقط عليهم براميل بشار الأسد، أو صواريخ بوتين أو تمزقهم حوافر ومخالب خامينائي. يأكلون ويشربون ويتداوون بحساب، وبحد الكفاف، وفوق رأسهم سقف، وأولادهم يذهبون إلى المدرسة. أما كرامتهم وأرواحهم وحياتهم وذكرياتهم وبيئتهم وكيانهم الإنساني، فهي في مكان آخر.

وفي الداخل- وباستثناء البعض القليل جداً- يغبطون مَن هم في الخارج؛ يريدون الخلاص من المكان والناس والحاجيات والذكريات والزمن والبيئة. إنهم كتل خوف تتحرك مرغمة دون خيارات؛ يجنزرهم الفقر، يفقدون مسحتهم الإنسانية، لم يعد التنازل من أجل البقاء محرّماً، الجهة الأساس التي يخشون مواجهتها هي أنفسهم؛ يتعبدون، ولكن رفع عتب؛ حتى إيمانهم بحالة اهتزاز، يشعرون بخذلان في كل شيء، ومن أي شيء. باختصار منظومتهم الذهنية والإنسانية والقيمية في حالة احتضار؛ في حالة يتساوى فيها الموت مع الحياة.

فاوضوا القتَلة: النظام والروس؛ وفُرِض عليهم إشراك الملالي في البحث عن حل؛ وتبيّن أن كل ذلك لعب روسي لكسب الوقت وإفراغ القرارات الدولية من مضمونها

لقد تمسّكوا بالقرارات الدولية؛ فوجدوا القائمين عليها جميعاً متآمرين؛ والقرارات بلا أظافر أو آليات تنفيذ. فاوضوا القتَلة: النظام والروس؛ وفُرِض عليهم إشراك الملالي في البحث عن حل؛ وتبيّن أن كل ذلك لعب روسي لكسب الوقت وإفراغ القرارات الدولية من مضمونها. قبلوا حتى بلجنة دستورية؛ وجلسوا مع مَن لا يمكن أن يُجلَس معه في حالة عادية. وكل ذلك لم يُجدِ. سعى الكثير منهم لتشكيل مجلس حكماء من سوريين باستثناء مَن أجرم؛ وذلك لم ينفع، ولم يرَ النور لتبعثرهم، وأسباب أخرى.

نظام يريد أن يبقى، ولو تحوّلت سوريا إلى رماد، ولو بُعثِرَت أو قُسّمَت؛ ويستمر بمرجلته على درعا؛ والناس في حال اقتصادي يُرثى له؛ وحديثه عن السيادة لا ينتهي؛ وهو كسيح. وروسيا لبست لبوس "الوسيط"، كدب بزي عريس، من جانب تخذل منظومة الاستبداد بتغييب طيرانها، ومن جانب آخر تريد إذلال أهل درعا لتثبيت سيادة الساقط، وتبزَّ إيران. وإيران من جانبها تستمر بمشروعها الخبيث؛ تقتل، تخرب، تنشر المخدرات، تشيّع، وتتحدث في المقاومة. وأميركا تنام وتصحو كحال الهَرِم بايدن، وتتسلى باستنزاف الجميع؛ وأوروبا تركز على الأبعاد الإنسانية، دون قيم إنسانية حقيقية؛ وإسرائيل تحتفل كل ليلة بالخراب، الذي لا تستطيع فعله بيدها. أما العربان فينامون بالعسل؛ وإيران بالقرب من غرف نومهم، وقاب قوسين عن أول قبلتيهم.

نعود للسؤال الحاسم: ماذا أنت فاعل؟! عند استواء الموت والحياة، لا يبقى للمرء ما يخسره

في ظل كل ذلك، ماذا أنت فاعل؟ تموت؟! تنتحر؟! تنفجر قهراً؟! تتآمر؟! تتحوّل إلى قاتل؟!  إنها المحنة الكبرى. ها أنت حدّدت مَن تسبب لك بكل هذا. ربما يتفلسف البعض- كما أفعل- ويقول: "لا يأتي المرء شيءٌ إلا مِن نفسه"؛ ربما يكون ذلك صحيحاً؛ لكن نسبياً. أيها السوري السوري؛ لقد جعلتَ وسمحتَ وغفلتَ عن منظومة استبدادية تتغوّل بكل شيء في حياتك دون رادع؛ ولكنها كانت على درجة من "الفجعنة" للاستبداد، وغياب لأي معايير أو قوانين أو قيم أو أخلاق أو رُشد لتفعلَ ما فعلت دون تحليل أو تحريم؛ فساهمتْ بذبحك الروحي أضعاف أضعاف ما تسببتُه لنفسك.

وهنا نعود للسؤال الحاسم: ماذا أنت فاعل؟! عند استواء الموت والحياة، لا يبقى للمرء ما يخسره. كل شيء راح. وأي تعديل بأحد المصيرين مسألة حاسمة. "ليت منسوب الحياة يرجح"؛ هكذا يقول داخلك. وكي يرجح، لا بد من وقف أو إلغاء أو الخلاص مِن ومما استنزف حياتك. ولا يرتفع منسوب حياتك إلا بانخفاض لديه. أنت معذور إن فعلت أي شيء…. أي شيء؛ إنك تدافع عن نفسك وعن بقائك.

وبناءً عليه فإن أياً من المتسببين بما جرى لك يصبح هدفاً مشروعاً. وهؤلاء عصابة مترابطة عضوياً؛ حتى ولو تناقضوا. هم التقوا على دمارك؛ وهذا ما يجمعهم. وأي شطب لأي منهم سيعرف به الجميع، ويبدأ بتلمس مصيره وخروجه. فعندما تُرمى التوابيت والأكفان في وجه أحدهم، سيحسُّ بها الآخر، وينتشي لفترة وجيزة جداً. وما إن يبدأ برؤية توابيته، حتى يبدأ بالتفكير بالخلاص؛ فليس هناك أجبن من الملالي؛ وسترى كلب الضاحية الجنوبية يهرول راكضاً إلى جحره؛ وسترى "ذيل الكلب"- بالتوصيف الروسي- يهرب أو ينتحر أو يُنحَر. عندها يتكشف القاتل الصغير بوتين، ويعود إلى حجمه؛ وسيرف شرف العالم، لا جفنه. ذلك هو طريق الخلاص لروحك ولعودتك، ولعودة بلدك إلى الحياة. كيف يتم ذلك؟! هذا ليس للنشر.