عندما يبكي الكبار

2019.05.26 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أوائل الثمانينات جاءنا زائر لمنزلنا في مدينة تلمسان الجزائرية، وكنا نعمل كأساتذة معارين هناك، كان هو الدكتور الطيب التيزيني، وكان بالنسبة لي، اسماً مثقفاً معروفاً لكنني لا أعرف شيئاً عنه شخصياً، بعد وداعه، قلت: إنه رجل اسمه ينطبق تماما عليه إلى درجة كبيرة، مازحت زوجي قائلة: هل ظلمكم أهل حماة حين وصفوكم بالبساطة...؟ ألم تلاحظ معي هذه الطيبة والعفوية المفرطة لدى الرجل؟!

تتالت الأيام وتكررت الحوارات وبدا أن ما يشغل عقل الرجل وفكره التساؤلات الدائمة عما تطرحه الثقافة العربية والإسلامية والعالمية من تساؤلات وأفكار ماضياً وحاضراً وربما مستقبلاً، وفق ما يحدث من تطور عالمي بمجالاتها المتنوعة... أما عندما نختلف فكان يحيلنا إلى أسئلة أكثر عمقاً وتعقيداً....

كانت القراءات والعمل شاغله الأكبر لدرجة لم يكن يعرف كيف يسيِر أموره الأخرى، وما أكثر ما وقع بمطبات جهله ذاك، فقد طالبه فندق الزيانين المعروف في المدينة بآجار مدة إقامته فيه - ولم تكن قليلة - وكان لا يعرف شيئاً عنها، ولم يستطع مواجهة حيل وفساد موظفي الميناء الجزائري حين سرقوا كل ما نقله من منزله الألماني من أثاث، فخسره بأكمله... وهكذا كان متفرغاً كلياً للكتابة والقراءة والحوار ... حتى في زياراته كان يتحدث عن إعجابه بمستوى طلابه الجزائريين الثقافي وأهمية اطلاعهم على الثقافة الفرنسية....

إذا أراد أن يفرض علي شيئاً لا أستطيعه، سأجامله ثم سأنتحر

بعد عودتنا إلى حمص وعندما كان وقته يسمح بزيارة حمص كان حريصاً على متابعة الحوارات مع نخبتها المثقفة... كان ما يزال يأمل بأن يؤثِر من داخل منظمات البعث بإصلاح ما.. وشعاره.. لابد من عمل شيء قبل تدهور الأمور، لكنه مع تطور الأحداث بات مقتنعا بأن هذا النظام لا فائدة ترجى منه، أذكر عندما زارنا في حمص قبيل مقابلته الرئيس حافظ الأسد قال: إذا أراد أن يفرض علي شيئاً لا أستطيعه، سأجامله ثم سأنتحر، كما فعل... وذكر اسم فيلسوف ألماني يبدو أنه مرَ بالحالة نفسها... أما بعد الزيارة فكان تقييمه له بأنه ذكي وليس بسيطاً لكنه يتصف بصفات الاستبداد المطلق الكاملة....

بعد هذه المرحلة كان واضحاً في مواقفه من النظام، وكان يرى بأنه لابد من بناء "انتلجنسيا" نهضوية، ولم يكن وحيداً في رؤيته تلك بين المفكرين العرب والسوريين، لكنه كان الأكثر تركيزاً على تلك المهمة، ولذا بدأ بمشروع المجلدات الاثني عشر، والتي درس في الأول منها المرحلة الإسلامية بشقيها "عصر النبوة وامتداده الراشدي، ثم الدولة والحكم والتاريخ الإسلامي"... مستفيداً من المنهج العلمي الماركسي مبتعداً عن جوانب النظرية الماركسية الأخرى التي تجاوزها الزمن وأنماط التطور الحضاري العالمي وفق أقواله...

مرت سنوات كان يقدم ما تصل قناعاته إليه في أبحاثه تلك، من خلال محاضرات في المراكز الثقافية، يحاور المستمعين بتواضع واحترام كامل لآرائهم دون تذمر أو تعال، ولعله كان يشير في أحيان كثيرة إلى استفادته منهم، مع تطور الأحداث بدأ الجانب السياسي والاجتماعي يطغى على اهتماماته، وعندما تولى بشار الرئاسة كان أحد الموقعين على بيان التسعة والتسعين مثقفاً، الذي انتشر في 27 أيلول عام 2000 والذي طالب موقعوه بإلغاء قانون الطوارئ والعفو عن السجناء السياسيين والسماح للمبعدين بالعودة والحماية القانونية لحرية التعبير وحرية التجمع.... ذلك البيان الذي افتتحت النخبة السورية به نضال المجتمع المدني... وكان – على ما أظن أول من أشاع مصطلح "الدولة الأمنية" وضرورة تفكيكها، ثم بلور نظرية الاستبدادات الأربع أو الثلاث وكان دائم الحوارات العلنية والخاصة بها وحول تأثيرها المدمر في المجتمع...

ومهما قيل في أسباب وجوده مع متظاهري دمشق المطالبين بالإفراج عن المعتقلين فقد كانت كلماته للجهاز الأمني الذي اعتقله من قبيل التقية لا أكثر، "والعنف المنفلت من عقاله سيد المواقف" ولولا الفضيحة الإعلامية التي سيسببها اعتقال رجل في مثل مكانته الفكرية وسنه المتقدم ما كان سيفرج عنه، وبخاصة أن الإعلام العالمي بدأ يتناقل تلك الأخبار، ولم تكن حالة النظام وقتذاك تتحمل مثل هذه الفضيحة...

منذ أن أغلق النظام المنتديات الثقافية ثم بدأ باعتقال لجان إحياء المجتمع المدني تحولت معظم محاضرات التيزيني خارج سورية وداخلها إلى ضرورة الإصلاح وتفكيك الأجهزة الأمنية ومحاربة الفساد، وربما كان هذا الاهتمام الذي طغى عليه أحد الأسباب المهمة في عدم متابعة مشروعه الفكري النهضوي، قبيل الثورة كان يتوقع الانفجار ومع بدئها كان خائفاً على البلد من الدمار فقد كان يعرف جيداً طبيعة النظام... ألم يقل للأستاذ شعبان عبود بعد حواره مع بشار الأسد "مافي أمل" ...

هاجم الطائفية بالاسم وعدد طوائف سورية داعياً إلى وحدة الشعب السوري مظهراً آثارها المدمرة للوطن

ومع ذلك فقد صاغ الدكتور الطيب المطالب الثورية أفضل صوغ عندما قدم مداخلته بشجاعة وجرأة نادرتين، في المؤتمر الذي أشرف عليه الأستاذ فاروق الشرع والذي أصبح معروفا للقاصي والداني والذي رمى النظام الأسدي نتائجه بحاوية القمامة بتحريض من إيران وزبانيتها... ولم يكن أقل جرأة عندما هاجم الطائفية بالاسم وعدد طوائف سورية داعياً إلى وحدة الشعب السوري مظهراً آثارها المدمرة للوطن، في خيمة تأبين الشهداء في القابون عام 2018 يظهر ذلك جلياً في خطابه ذاك الذي سجله الناشطون ووزعوا الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي حينها...

ليست حياته الخاصة ما تهم السوريين، إذ من يتحدث بذلك لا يرتكب موقفاً غير سليم أخلاقياً فقط، وإنما هو موقف بعيد كل البعد عما توصلت له الحضارة العالمية من احترام الحريات، ولا سيما الحرية الشخصية منها، ومتى كان الحكم على إنتاج الفكر والفن والشعر وكافة مظاهر الإنتاج الحضاري مرتبطا بالحياة الخاصة لأفراده؟؟؟ فما يقدمه أي مبدع في حقله متروك لندوات فكرية وفلسفية قادمة قد يختلف المتحاورون في جوانب منها ويتفقون في جوانب أخرى وقد تثمنها الأجيال القادمة وفق ظروفها السياسية والاجتماعية والمعرفية، لكن عندما يتدارى بعضهم خلف فكرة "وجهة نظر" بإعدام كل ما قدمه هذا المفكر أو ذاك فله أن يفعل، ضمن تلك الندوات، أو الدراسات التفصيلية، وليس في بضعة أسطر يكتبها في موضع رثاء!!!

لن يتقبل السوريون ورفاقه بخاصة، أن بكاء الدكتور التيزيني في مؤتمر طنجة كان بسبب الشيخوخة، فقد سمحت تلك الشيخوخة له بالسفر وتقديم المحاضرة والمداخلة!!!

لقد كان البكاء مترافقاً بالحديث عن كوارث سورية، تدميراً للوطن بأرضه وشعبه وتاريخه ومستقبله.... إنه بكاء من يشعر حتى الصميم ويعي ويفهم ما يحدث وهو المثقف الذي حاول جاهداً أن يقدم شيئاً من التأسيس المعرفي في عقول السوريين... إنه بكاء من يشعر بأن الطرق سُدت في وجه السوريين وبأنهم باتوا يرددون "يا الله مالنا غيرك".

لم تكن تلك المرة الوحيدة التي بكى الطيب فيها، وهو يعيد برنامجه الذي قدمه بالحوار الأول، لقد استمر بالبكاء حتى آخر نفس له.... جميع من رافقه في حمص.. ذكروا ذلك... منذ أشهر قليلة زار مكتب اتحاد الكتاب في حمص.. كانت أقواله المترافقة بالدموع تسائلهم: هل رأيتم ما حل بحمص؟ هل رأيتم ما حل بالبلد؟ ماذا نفعل؟ ماذا أنتم فاعلون؟؟؟

من قرأ ما كتبه الأستاذ مظهر الحجي الذي كان يرافقه مؤخرا في جولة داخل زواريب حمص وكيف كان يراها غاصة بالمتسولين... يبكي من أجلهم ويعطيهم ما في جيبه... من قرأ تلك الشهادة يلمس في الطيب صفاءً وإنسانية شفافة قلَ نظيرها... لم يكن الطيب يبكي ضعف شيخوخته بل يبكينا جميعا كان يبكي الوطن والناس، يبكي الحجارة والشوارع والزرع والأرض والأطفال والنساء والشباب والرجال... في بكائه كان يرسل رسالة للأجيال: لقد كنا هنا، نشعر معكم ونحس بإحساسكم ونبكي قلة حيلتنا وغدر العالم بنا...

ذلك هو بكاء الكبار... فهل ستجف الدموع يوماً؟؟