عن وطن يصبح محتلوه مرجعية مواطنيه؟

2022.01.11 | 05:06 دمشق

1026988008_022129671826_1000x541_80_0_0_0822a02eb1ae815d4ffdc5ca4e3fd92e.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبل أكثر من أربع سنوات، أوكلت لقيادة القاعدة العسكرية الروسية في حميميم مهمة أخرى، تختلف عن المهمات العسكرية، والاستخبارية الأساسية المتعارف عليها عادة في القواعد العسكرية التي تتبع لدول خارجية، إذ راح طاقم عمل يضم ضباطا وسياسيين روسا، يساعدهم مترجمون روس وسوريون باستعمال وسائل التواصل الاجتماعي للتواصل مع المواطنين السوريين، ولم يكن هذا التواصل بهدف تسويق وجهة نظر القيادة الروسية في الشأن السوري فقط، بل كان أيضا بهدف تسويق روسيا كسلطة احتلال قادرة على إدارة شؤون المواطنين السوريين اليومية.

من البديهي أن تكون شؤون المواطنين السوريين هي عمل يخص الحكومة السورية وحدها، ومن البديهي أيضاً أن تخفي السفارات والقواعد العسكرية الأجنبية نشاطها في هذا المجال في حال قيامها به، فهو غير قانوني ومرفوض تماماً، ويمسّ صميم السيادة الوطنية، لكن القاعدة العسكرية الروسية كان لها رأي آخر، إذ مارست نشاطها بكل علنية، وعلى صفحتها على "الفيس بوك"، وعلى "التيلغرام".

على الرغم من أن توضيحات رسمية روسية صدرت، لتنفي العلاقة بين قيادة القاعدة وهذه الصفحات، إلا أن من يدقّق جيدا في طبيعة الردود، ومحتواها، وعكسها الدقيق للرؤية الروسية، وما تمارسه فعلاً على الأرض السورية، سيدرك جيدا أن نفي هذه العلاقة هو الذي يجب نفيه، وأن ما تحاول هذه الصفحات قوله وفعله، هو مخطط له، ومتعمد من الطرف الروسي.

كيف ينظر هؤلاء المواطنون إلى حكومة وقيادة بلدهم؟ فهم إما أنهم يرونها عاجزة ولا حول لها، وبالتالي غير قادرة على حل أبسط مشكلاتهم، أو أنهم يرونها غير مبالية بهم

تضعك الرسائل التي أرسلها مئات المواطنين السوريين إلى قيادة القاعدة الروسية عبر صفحتها على الفيس بوك، وتابعها وتناقلها عشرات الآلاف منهم، والردود التي أتت عليها من شخصيات روسية أمام مفارقات صادمة، وتفتح في النفس أسئلة أعمق بكثير من اعتبارها رسائل عادية لأشخاص يحاولون الاستفسار عن أمر ما، أو يحاولون طلب المساعدة في أمر ما، أسئلة تذهب بك إلى معنى الوطن والدولة والسيادة، ومعنى الاحتلال، والمواطنة، والكرامة الوطنية، وطبيعة السلطة التي تحكم سوريا، وغير ذلك الكثير.

أول الأسئلة التي تثيرها رسائل المواطنين السوريين إلى القيادة الروسية في قاعدة "حميميم" في ذهن أي متابع لها، هو كيف ينظر هؤلاء المواطنون إلى حكومة وقيادة بلدهم؟ فهم إما أنهم يرونها عاجزة ولا حول لها، وبالتالي غير قادرة على حل أبسط مشكلاتهم، أو أنهم يرونها غير مبالية بهم، إذ توجد رسائل كثيرة من جرحى قاتلوا وأصيبوا في معارك زجتهم بها هذه القيادة، تطلب المساعدة بالحصول على أدوية يحتاجونها لعلاجاتهم، وهناك رسائل أخرى تطلب المساعدة في لجم أفراد "ميليشيا الدفاع الوطني" التي ترتكب جرائم بحق المواطنين، وهناك رسائل تطلب التدخل في توزيع المعونات الغذائية الهزيلة التي تقدم للشرائح الفقيرة، وهناك رسائل تناشد القيادة الروسية تسريح الدفعات القديمة من الجيش السوري، والتي أمضت سنوات طويلة في الخدمة الإلزامية.

إذا كانت نوعية الرسائل المذكورة سابقاً، تجد من يبررها بالظروف القاهرة التي يعيشها مرسلوها، وأن حاجتهم الماسة تجعلهم غير مهتمين بهوية من سيقدم لهم العون حتى لو كان محتلاً، أو أجنبياً على أهون تصنيف، فما الذي يمكن أن نقوله عن رسائل تستنكر على الروس السماح لمدنيين سوريين مهجّرين عنوة بالوصول إلى مناطق أخرى في سوريا، ويذهب بعض هذه الرسائل إلى حد تخوين الروس لعدم إبادتهم لهؤلاء السوريين، وتذهب بعضها إلى ما هو أبعد من ذلك فتطالب الروس بإبادة إدلب وحرقها، كونها أصبحت ملاذا للسوريين الذين يعارضون النظام السوري؟

الرسالة التي استوقفتني طويلاً، ليس بسؤالها، بل بالرد الذي جاء عليها، والذي يعكس برأيي عدة نقاط بالغة الأهمية، وتعكس جيداً جوهر التعاطي الروسي في الشأن السوري، إذا قام أحد المعارضين السوريين (هكذا يسمي نفسه) بتوجيه سؤال عن مصير "بشار الأسد"، تزامن السؤال مع تسريبات تمت حينها، وتحدثت عن عدم تمسك الروس ببقاء بشار الأسد، وقام بالرد على هذا السؤال شخص يدعى "أليكسندر إيفانوف"، وهو كما يبدو من صفحة القاعدة، يُعتبر بمنزلة الناطق باسم القاعدة العسكرية الروسية في "حميميم":

- "نعتقد أن الرئيس السوري بشار الأسد هو حليف استراتيجي، ينتمي إلى إحدى الأقليات المرغوبة من قبلنا في سوريا، ولسنا في صدد الحديث عن بديل له في الوقت الحالي".

هكذا بكل بساطة، وبفجاجة تصل حد الوقاحة، يوضح السيد "إيفانوف" رؤية روسيا لرئيس سوريا، فالرئيس السوري يجب أن يكون حليفاً استراتيجياً للروس، وهو معيارهم الأول لموقع رئاسة سوريا، أما معيارهم الثاني فهو أن يكون من أقلية مرغوبة، وبالتالي فإن بقاء أو تنحي بشار الأسد لا يعود للشعب السوري، بل إنهم هم (الروس) من يقرّر ذلك، وليس لديهم في هذه الفترة أي نيّة في استبداله.

إن الحديث عن طائفة مرغوبة للروس داخل سوريا لا يقل بشاعة، لا بل ربما يفوق في بشاعته، ما أعلنه وزير الدفاع الروسي عن نجاح تجريب ما يزيد على 300 نوع من الأسلحة الروسية الحديثة في لحم السوريين، وبيوتهم، وممتلكاتهم، ومشافيهم، ومدارسهم، فهو يفتت المجتمع السوري، ويدخل تصنيفات السوريين في معادلة صياغة الدولة السورية.

يبدو أن القيادة الروسية لم تخرج حتى اللحظة من ثقافة العسف والتبجح، التي صاغتها مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية

أما قوله بأن بشار الأسد هو حليف استراتيجي، فهو ينسجم إلى حد كبير مع بنية السلطة التي تقود روسيا، سلطة لا ترى العلاقة بين الشعوب بوصفها أساس التاريخ، بل ترى التاريخ مجرد طغاة يمتلكون القوة، ولهذا أرسلت موسكو جيشها إلى سوريا، ولهذا أيضا ترسل اليوم جيشها لسحق المتظاهرين في كازاخستان.

يبدو أن القيادة الروسية لم تخرج حتى اللحظة من ثقافة العسف والتبجح، التي صاغتها مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ كان يمكن لها أن تكون أقل صفاقة وتقول لسنا من يقرر رحيل بشار الأسد فهذا شأن سوري محض. وكان يمكن لها أيضا أن تكون أقل وقاحة، وتكتفي بالقول إن بشار الأسد مرغوب عندها دون الحديث عن طوائف مرغوبة أو غير مرغوبة، وكان لها وبقليل من الدبلوماسية أن تقول بأنها حليفة للشعب السوري وليس لأفراد فيه.

سينتقد البعض ما قلته أعلاه بحجة أنه مبني على معلومات صفحة قيل إنها مزوّرة، لكن هل الرسائل التي أرسلت إلى هذه الصفحة كانت مزورة؟ إنها رسائل كتبها أشخاص يمكن بسهولة تبين الحقيقة في وجودهم وفي معاناتهم، والتزوير – على افتراض وجوده – يجب أن يكون في الردود التي يمكن لكاتبها أن ينتحل صفة غير حقيقية، لكن  هل يختلف ردّ "أليكسندر إيفانوف" المذكور عن ما قاله "ألكسندر لافرنتييف" مبعوث الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" إلى سوريا مؤخرا حول اللجنة الدستورية وبقاء الأسد، وهل يختلف عما قاله "ميدفيديف" منذ سنوات في لقاء صحافي مع صحيفة «هاندلز بلات» الألمانية: إنه (يجب الحؤول دون وصول أهل السنة إلى السلطة في سوريا، لأنهم سيبدؤون بقتل العلويين)، وهل يختلف عن تصريحات "سيرغي لافروف"، بشأن المخاوف من ضغوط في المنطقة لإقامة نظام سني في حال سقط النظام السوري؟!

إنها روسيا البوتينية، روسيا التي تسحق جنازير دباباتها اليوم أجساد المتظاهرين في كازاخستان، روسيا التي لا أستبعد أن تتباهى يوما بشريط دعائي لنوع من أسلحتها وتظهر فيه أشلاء مدنيين تتطاير.

للحديث تتمة عن فاجعة احتلالات أخرى لسوريا أصبحت أيضاً مرجعية لمواطنين سوريين آخرين.