عن كنوز المعتقلين وأهاليهم (2)

2021.01.29 | 00:10 دمشق

mnhj-alsjwn-fy-dyn-altghat-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

يتناول هذا الحديث طرائق النظام السوري في اعتقال المواطنين السوريين، واستغلال أهاليهم مادياً، وقد انتهينا، في الجزء السابق، إلا أن هناك مجموعات من المعتقلين كانوا يدخلون السجن بأمر من حافظ الأسد شخصياً.. يقول: خذوهم. ولا يضيف شيئاً.. وفي هذه الحالة يكون جميع السجانين والخدامين والجلاوزة الكبار والصغار مضطرين لانتظار أن يأتي أمر إخلاء السبيل من حافظ، شخصياً، ولا يوجد ابن امرأة، أو أخو أخته، مخول، أو مفوض، بأن يفتح باب السجن ويقول لهم: يكفيكم ما بقيتم هنا فانصرفوا..   

حدثني صديق عزيز، وهو من أبناء الساحل السوري، أنه أقام في سجن تدمر نحواً من اثنتي عشرة سنة، بتهمة الانتماء إلى حزب العمل الشيوعي، وأنه وزملاءه السجناء كانوا يتداولون في فكرة موجعة مفادها أن حافظ الأسد حقير، لا خلاف، ولذلك ينسى، أو يتناسى هذا العددَ الكبير من الرجال المقتلعين من أحضان آبائهم وأمهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم في السجن، ولا يعطي إيعازاً للسجانين بإخلاء سبيلهم، ولكن؛ ألا يوجد واحد من الدائرة الصغيرة المقربة منه، يعني من أركان حربه الذين ثَبّتوا نظام حكمه بالحديد والنار، يمكن أن يسأله، في ساعة صفا، أو لحظة رواق:

- إلى متى تحتفظ بهؤلاء؟ ألا تكفي السنوات الطويلة التي ألقوا خلالها في غياهب تدمر، وهم لم يحملوا سلاحاً، ولم يقتلوا أحداً، ولم يفجروا منشأة، وكل جريمتهم أنهم أبدوا رأياً مخالفاً؟   

كان ثمة ضابط كبير مقرب جداً من حافظ الأسد، أحيل على التقاعد، وصار يلتقي بالناس في منطقته. سعى صديقي المذكور للتعرف عليه، وعندما تحقق له ذلك، وجه إليه السؤال الذي كان يؤرقه ورفاقَه، قائلاً:

- في فترة الاعتقالات الكبرى التي امتدت من أواخر السبعينات حتى أواخر التسعينات، أنتم الضباط الكبار، ضمن الحلقة الصغيرة المقربة من حافظ الأسد، ألم يكن لدى أحدكم قليل من الشفقة والجرأة فيسأله: ألا تكفي المعتقلين كلُّ هذه السنين؟ 

وكان رد الضابط أنْ نعم، هذا الشيء حصل، مرة واحدة لم يجرؤ أحد على طرحه مرة ثانية، فقد سأله أحد أركان حكمه الكبار، عن مجموعة معتقلين، لهم أقارب مقربون من النظام يسألون عنهم، أنْ: متى ستطلقون سراحهم؟ فضحك حافظ (ضحكة عنزة في مسلخ)، وقال له:

- ليحمد الأهالي الله على أننا لم نأخذهم مع أولادهم!   

ابتداء من مطلع الثمانينات، وصل استغلال أركان نظام الأسد للشعب السوري ذروته، فقد تصاعد القمع، وانفلتت الديكتاتورية من عقالها، وعمت الفوضى، وارتفعت كلمة المخابرات لتصبح فوق الجميع، وبعد أن كانت عمليات الاستغلال وتَلَقّي الرشا خجولة، وحذرة، وخائفة، أصبحت ممنهجة، ومكشوفة، تزامن ذلك مع انطلاق العمليات الأمنية ضد مقاتلي حزب الطليعة، وقد توقفت، على إثر ذلك، المعونات الخليجية التي كانت تتدفق على سوريا منذ انتهاء حرب تشرين الأول 1973.. وجاء رفعت الأسد (بحسب ما روى رجل الأعمال المعارض فراس طلاس في مقابلة تلفزيونية مع روسيا اليوم) وطرح على شقيقه حافظ فكرة العمل على بناء ثروة خاصة بالعائلة (الأسد)، وجيء بمحمد مخلوف ليكون مديراً لهذه الثروة.. هذا الأمر كان يعني إطلاق يد مخلوف وعصابته الاقتصادية في القطاعات الكبرى (النفط والجمارك)، والسماح، بالتالي، لأركان النظام الآخرين بإجراء نهب شامل للمجتمع، لا يقابَل بأي مانع، أو رادع، وهناك عشرات الحكايات عن رجال من السلطة أدينوا بموجب تقارير للهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، والجهاز المركزي للرقابة المالية، وبعضهم صدرت بحقهم أحكام قضائية مبرمة، ولم يتمكن أحد من وضع مقترحات التفتيش أو الأحكام القضائية الصادرة بحقهم موضوع التنفيذ، لأنهم محصنون ضد القانون.. وهذا كله، كان منسجماً مع الخط العام الذي بَنَى عليه حافظ الأسد حكمَه، وقد لخصه، ذات يوم، أمام أحد أصدقائه بالقول إن مَن يريد أن يكون معنا ويستفيد، سنعطيه ما يريد، ومَن أراد أن يعارضنا فأمامه السجن (أو الموت، طبعاً).

يمكننا، الآن، أن نميز بين نوعين من عمليات النهب، الأول استغلال الأهالي بتهديدهم بالاعتقال، والثاني استغلالهم بعد اعتقال أبنائهم بالفعل.

ثمة حكايات طريفة جداً، مشتقة من النوع الأول، تقول إحداها إن ضابطاً مخابراتياً في مدينة إدلب كان يبتز أصحاب محال بيع الذهب (الصاغة) بمبالغ صغيرة وبعض الهدايا، وذات يوم سمع بأن أسعار الذهب قد بدأت ترتفع على نحو مطرد، وأن تجار الذهب يحققون من هذا التضخم المالي أرباحاً خيالية، فسال لذلك ريقه، واتصل بواحد من الصياغ الكبار، وسأله عن سعر الذهب اليوم.

قال الصائغ: الغرام بـ بأربعمية وخمسين ليرة سورية.

قال الضابط: اشتري لي كيلو لحسابي.

بعد أسبوع اتصل الضابط بالصائغ وسأله: بقديش صار الدهب اليوم؟    

رد الصائغ: بخمسمية وخمسين.

قال الضابط: كويس. بيع الكيلو تبعي، وجيب لي الربح ع الفرع.

وهكذا ربح الضابط مئة ألف ليرة باتصالين هاتفيين فقط.

وبالانتقال من إدلب إلى الحسكة تحضر سيرة قائد الشرطة المتجبر المتغطرس العميد "أبو عدنان"، الذي حدثني عنه الصديق "علاء بوش" قائلاً إن مكان التوقيف "النظارة" عند أبو عدنان كانت تغص دائماً بالموقوفين، وهؤلاء كنز دائم الجريان في هذه المحافظة العامرة بالخيرات..

وكان أبو عدنان يرفض، خلال العمل، أن يأخذ جريدة تشرين من الحاجب حتى يعطيه الخمس ليرات ثمنها، لا لأنه شريف، حاشاه، ولكن لأنه كان مختصاً بتلقي الهدايا الكبيرة، (شو جريدة وخمس ليرات وهالعلاك الفاضي؟).. كأنْ يهديه أحدُ الأغنياء زراعة خمسين دونم من أرضه، وبعد جني الموسم يأتيه بما حققتها الدونمات الخمسون من أرباح على داير مليم، ويحلف له (على سبيل المزاح طبعاً) بأنه لم يمد يده إلى قرش واحد من غلة الموسم، ويقول:

- لأنها على اسمك سيادة العميد، وأنا ما بمد إيدي على مال حرام!

وهناك مَن كان يهدي أبا عدنان محصولاً ناجزاً، خمسين كيساً من القمح "قلم أحمر"، وعشرين كيساً من القطن المحلوج، إضافة إلى البرغل والفريكة والسمن العربي. وللعلم فإن أبو عدنان اكتسب، خلال هاتيك السنوات، لقب "أبو الحصان"، وأصل حكاية هذا اللقب أن أحد الأغنياء كان عنده موقوف في نظارة أبو عدنان، وذهب لزيارته ومعه حصان عربي أصيل.

أسهب الرجل وأطنب في مديح الحصان أمام أبو عدنان وضيوفه، وقال إنه أحضر معه سجلاً دَوَّن فيه كل شيء عن أصله وفصله وسلالته. والخلاصة أن أبو عدنان شكره على الهدية، واعتذر، لأنه لا يملك مكاناً يضع فيه الحصان، وليس عنده سائس يعتني به، وقال:

- إذا كان ولا بد، احسب لي شقد حقه، وادفع لي نقدي.

 وضحك وقال مخاطباً ضيوفه:

- أبو فلان جايب لي الحصان منشان أركبه وأسافر فيه من بلد لبلد.. خيو، منشتري بحقه سيارة، ومنتنقل فيها. شو بتفرق؟!