عن تسخير السياسة لعلم النفس ضد الثقافة

2022.06.05 | 05:38 دمشق

90-730x438.jpg
+A
حجم الخط
-A

يبدو أن السياسية تمكنت من الثقافة سلباً ونفياً وتقزيماً. فالسياسيون في مراكز القرار لا يحبون الإنصات للمثقفين والكتّاب؛ كون الأخيرين يطرحون قضايا لا يحبذها الحزبيون والسياسيون، وإن لم يكونوا بكليتهم، لكن غالبية من يتصدرون المشهد العام هم من ذلك التوجه. فبات من الضروري استعادة التركيبة الضائعة للثقافة في ميدان السياسية التي نجحت بالسيطرة على مقاليد الأمور، بعد بروز وتغول ميدان علم النفس السياسي، والتي استغلتها السياسة لنفسها.

فلكل ثقافة أربع أشكال أساسية للمجتمعات المستقرة: 1-الشراكة الجماعية للقرار السياسي العسكري الاقتصادي، 2- التصنيف الرمزي للسلطة ما بين الاستبداد أو الديمقراطية، 3- تصنيف المساواة المجتمعية، و4- انسيابية الشراكات والعمل والمساواة في فرص العمل ضمن التجارة والسوق والاقتصاد. والمشكلة تتولد حين تقوم السياسة بالعمل على رسم معالم هذه الأشكال الأربعة، لتخلق ثقافة أحادية إقصائية، وأحياناً تخوينية، خاصة تجاه القواعد الاجتماعية التي تنشطر مجتمعياً بمفاعيل سلطوية وخطط سياسية تهدف إلى السؤود والإلغاء. وهو ما يقود للبحث في دور الواعظ والمحرك النفسي في الصراع السياسي ودوره الرئيس في تشكيل المفاهيم الإدراكية التي تأتي بالخطر أو المساواة والعدالة.

وعادة ما تتشكل المفاهيم العامة المحركة للأفراد والجماعات من أربع عناصر خطيرة: 1- الميول البشرية الأساسية، 2- التجربة التي تعبر عنها الثقافة والمواقف المجتمعية، 3-الإيدولوجيا السياسية والعادات النفسية التي تساهم كُلها في تطوير الثقافة. 4- الرواسب المجتمعية والتراكمات المفاهيمية والمصطلحات والشروحات حول الأخر. العناصر الأربعة هذه تلعب دوراً مهماً في نفسية الأفراد الداخلية لتشكيل رأي عام حول قضية ما، يؤدي لخلق ثقافات سياسية تجعل من الأفراد والجماعات تمنح نفسها للحكم الاستبدادي أو الديمقراطي.

غالباً ما تكون محركات ومعرفات السلطة- الحزب، أقرب إلى العاطفة أكثر من العقل؛ لتتهيأ الأرضية بالكامل لخلق الصراعات الثقافية والسياسية بين الجماعات ضمن الدولة الواحدة

فضمن المجتمعات غير المستقرة والتي تعاني فيها الثقافة من ضربات سياسية- سلطوية متعددة أجحفت بحقها، تلعب السلطة المستبدة دورا رئيسياً في خلق المتخيل النفسي والثقافي التي تمضي الشعوب والأفراد في اعتناقها والتعبير عن نفسها، وتالياً خلق أقاليم ثقافية خاصة بكل فئة أو جماعة بشرية منشطرة فيما بينها، ثقافة معادية لغيرها، ويُخلق معها معدات للصراع الشعبي، فتتأقلم المجتمعات لغسل أدمغتها عبر الشعارات والمفردات الثورية والخطابية، وغالباً ما تكون محركات ومعرفات السلطة- الحزب، أقرب إلى العاطفة أكثر من العقل؛ لتتهيأ الأرضية بالكامل لخلق الصراعات الثقافية والسياسية بين الجماعات ضمن الدولة الواحدة، ويُصبح الصراع العرقي- اللغوي، القومي - الانتمائي ناضجاً بدرجة مرعبة ضمن المجتمعات المركبة أو ضمن المجمع الواحد نفسه نتيجة للانشطار السياسي.

 في حين أن المجتمعات التي تقودها أنظمة ديمقراطية وشفافة وتعددية، تتباهى الثقافات فيها حول التفصيلات المتعلقة بقواعد توزيع الثروات، تقنيات تحقيق العدالة الإجرائية، وأساليب حل الصراع العرقي والخلاف السياسي، وطرق القصاص والعقاب، وتتجه تلك المجتمعات نحو الاستقرار والتباهي بثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية.

***

من جهة أخرى، فإن مجتمعاتنا تحولت إلى مفككة وضعيفة؛ نتيجة الهجرة والموت والحرب والفقر وفقدان التجانس وانقسامها بين ثقافات قومية مقموعة، أو هجينة وجديدة مؤذية، أو ثقافة جامعة لكنها تفتقد للفعالية الحركية الشاملة للم شمل التجزئة المجتمعية في إطاراً موحد لتقديم الأفضل. لذا فإن تطور مجتمعاتنا أصبح بطيئاً بفعل هجرة العقول وفقدان المؤسسات الثقافية لدورها العميق في رسم رتم المجتمعات أمام تغول اليد العليا للفكر السياسي الذي هو الآخر لم يصل إلى مرحلة الاستقرار وإنشاء كليات نفسية إيجابية مشتركة بين المكونات، فباتت الحاجة تلح أكثر لاستعادة الثقافة لدورها للإجابة عن الأسئلة النابعة من تقاطع علم النفس والثقافة والسياسية لقيادة المجتمع صوب بر الأمان.

فالثقافة هي من الثوابت في المجتمعات البشرية، تصنع وتًصنعها المواقف والتحديات والتجارب والممارسات والتراكمات والتطورات التاريخية والسوسيولوجيا، إضافة للدور المحوري للفرد –الإنسان، لكن محتواها يتغير لدى جماعة ما إذا تسلط عليها الخلاف والصراع السياسي فيشكل ضاغطاً سياسيا وسيكولوجياً على أفراد الجماعة. حينذاك من الطبيعي أن نجد ثقافات سلبية وغير محضة على المساواة والتعاون طالما إنها تنشأ بتوجيه سياسي لخلق ظروف خاصة؛ بغية إعادة توليفه بما تقتضيه المصالح السياسية، ويعتمد الخطاب السياسي على دور التأثير النفسي للمصطلحات الرنانة في التوجيه والحشد والمناصرة، لذا فإن فكاك الثقافة عن السياسية في ظروف الحرب والكوارث والخلافات الحزبية والسياسية ستمهد الأرضية لإرشاد الجماعة أن تعيش ضمن ظروف مادية ونفسية هي ترغب أن تعيش فيها؛ خاصة وأن الممارسات الثقافية السليمة لا تقوم بدور تكيّفي-متماهي مع السلطة المستبدة، وإنما تسعى الثقافة الهادفة صوب بناء الإنسان، هذا البناء الذي هو أبداً ساعٍ صوب القطيعة النهائية مع الاستبداد.

والثقافة في تحالفها السليم مع علم النفس، تدخل في المناهج الأساسية الكبرى/العدالة، التواصل، العيش المشترك، التعددية اللغوية والسياسية والثقافية...إلخ/ التي تشكل حياة الجماعات السكانية؛ ساعية صوب خلق تجانس وتآلف وتآزر قيم المعيشة عوضاً عن مهزلة سياسة الأمن والبقاء مقابل الطاعة والتي تحولت إلى ثقافة لدى السلطات الاستبدادية، وهذا أمر خطير جدا؛ فالتغيير يحدث أكثر ضمن الموروثات الثقافية للأجيال اللاحقة، التغيير يكون إيجابياً دافعا صوب مفاهيم حداثوية حين يتعلق بقضايا التعددية والمساواة ومساحات عمل شاسعة لميدان الثقافة، وحقول الكتّابة والبحث العلمي والصحافة، أو أن التغيير يكون كارثياً نتيجة احتكاك قسري للثقافات بين وضد بعضها، خالقة ثقافة جديدة هجينة، تنتقل للأجيال التي تلي وتأتي لتجد من سبقها متماهاً وراضخاً لثقافة التفاضل بين حرية التعبير ومصيرهم على قيد الحيّاة، بين نشر الاستقرار الهشّ مقابل السكوت عن كل ما يصدر من السلطة، عوضا عن نشر ثقافة الحقوق والأمن مقابل الرضا الشعبي عن السلطة، وهذه الموروثات الثقافية بين الحالتين ستشكل مستقبل الأجيال القادمة التي لا بد أن تنفجر في أي لحظة أو تكتشف وتعدل كل فكرة لأجل ثقافة جديدة تحمي المجتمعات.

تتعاظم الحاجة إلى حكومة سياسية تعددية قوية تخدم العدالة والديمقراطية ولا تتدخل ثقافيا إلا لترسيخ المبادئ التي تسعى الثقافة لتأصيلها ضمن المجتمعات

حالياً في مجتمعاتنا فإن البنى السياسية هي التي تشكل الحياة الاجتماعية والثقافية وغيرها، لكن الثابت والأكثر نجاعة هي أن تكون الثقافة متجذرة إيجابيا خلال فترات التغير الاجتماعي والسياسي وتأتي بكل جديد، فهي-الثقافة- النطاق المشترك للمفاهيم والوعي المشيد للمجتمعات والمشاعر المرتبطة بها، وتالياً فإن الأنفع هو تحالف الثقافة مع علم النفس السياسي لتسهيل الفهم العميق للقضايا الأساسية والنظرية المهمة للسياسية والمجتمعات.. إلخ، وهو ما يعني ضرورة تسهيل الإخصاب المتبادل بين الثقافة وعلم النفس لمنح دلالات جديدة خاصة بالحياة السياسية في بلداننا التي ابتليت بلوثة القهر والإلغاء، والأنظمة التي تستفاد من علم النفس لإذلال مواطنيها.

لذا تتعاظم الحاجة إلى حكومة سياسية تعددية قوية تخدم العدالة والديمقراطية ولا تتدخل ثقافيا إلا لترسيخ المبادئ التي تسعى الثقافة لتأصيلها ضمن المجتمعات؛ بغية التآلف والاستقرار فيها، خاصة وأن الثقافة هي صاحبة تفسير الممارسات العامة والفكرية للسلطة والمجتمع، وبقاؤها تحت سيطرة الاستبداد يعني شرعنة مزيد من العنف والممارسات القمعية الهادفة صوب تشييئ الفرد المواطن، وتجريده من قيمة المواجهة ورفض الخضوع. وما بين دور الثقافة في المواجهة وبناء الفرد إنسانياً وديمقراطياً، أو بقائها رهينة الاستبداد، نصل إلى النتائج العملية للانفصال عن السياسات المستبدة التي تحاصر المجتمع، أو تسخير الاستبداد لعلم النفس والثقافة للسيطرة وإخضاع الحياة الاجتماعية والثقافية في الدول-المجتمعات المركبة أو البسيطة.