عن النرجسية الخبيثة لدى "النظام" و"المعارضة"

2022.11.16 | 06:14 دمشق

تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

تحكي الميثولوجيا الإغريقية عن رجل صياد فائق الجمال، مغرور وشديد الاعتداد بنفسه، ومن نسل الآلهة، اسمه (نرسيس)، تنبأ له عراف اسمه (تريزياس) بأنه سيعمّر طويلاً، إن هو لم ير وجهه في مرآة، أو في أي انعكاس آخر، لكن الآلهة (نمسيس)  تغريه – في إحالة ما إلى إغراء (حواء ) ل (آدم) بتفاحتها الشهيرة - بأن يشرب  من ماء بحيرة شديد الصفاء، وعندما ينحني (نرسيس) ليشرب، يشاهد وجهه معكوساً فوق صفحة الماء الصافي، فيصعقه جماله، ويظل ينظر في وجهه الجميل حتى يموت.

من هنا اشتقت النرجسية، والتي يكثفها البعض بأنها "حب الذات المرضي"، لكن علم النفس الحديث، والطب النفسي لم يتركا الأمر عند هذا التعريف المكثّف، بل استفاضا ووسعا الأمر معتبرين النرجسية  اضطراباً "مرضاً" نفسياً، وبعد سنوات من المعاينات التشخيصية لأشخاص يتقاطعون في سلوكيات ومشاعر كثيرة، تدور في فلك حب الذات والغطرسة والغرور، تم إطلاق تصنيف طبي أُطلق عليه "اضطراب الشخصية النرجسية"، وحدّد الدليل التشخيصي الأمريكي تسعة أعراض له، منها: (الشعور بالعظمة، المبالغة  في الإنجازات، الحاجة إلى الإطراء وألقاب التعظيم، الغطرسة والتعالي، واستغلال الآخرين من دون الاهتمام بمشاعرهم .. ..الخ).

لستُ هنا بوارد الحديث عن اضطراب النرجسية النفسي، بأشكاله المتفاوتة داخل أي مجتمع، لكن ما أريد الحديث عنه هو حضور النرجسية في عالم السياسة والثقافة، والفن والإعلام .. وخصوصاً في المجتمعات المقموعة لفترات طويلة، والتي تتنوع فيها الاضطرابات النفسية، ويتعذّر عليها العيش دون أصنام دينية أو سياسية أو ثقافية، مجتمعات تصرُّ على صناعة أصنامها المعصومة عن الخطأ، ومن ينتقدها كافر، وفي النهاية تصبح العلاقة بها شكلا من أشكال العبادة.

 وإذا كان الفهم الديني المرتكز في جوهره على الغيبي، وعلى الإحالة إلى المطلق وتجلياته، يمكن أن يفسر إلى حد ما نشوء أنماط من الاستلاب والعبادة، لكن كيف يُمكن تفسير صناعة أصنام الثقافة، والسياسة، والفكر في مجالات يفترض بداهة أنها ترتكز في جوهرها على النقد، والجدل، والاختلاف كمدخل لتطور المجتمعات سياسياً، واقتصادياً، وتنمية الذائقة الأدبية، والفنية والجمالية فيها؟

هناك حالات ثقافية وفكرية، وحتى سياسية، صنعت لنفسها حضوراً كبيراً بعملها، وإنجازاتها، وأفكارها، ولم تقبل أن تكون خارج دائرة النقد، لا بل سعت لأن تنتج حواراً خلّاقاً، مهما تباينت وجهاته، يتيح لها وللآخرين إنتاج فكر أكثر أصالة وعمقاً، بالتالي فهي تحتل موقعاً لم تسعَ إليه أصلاً، لكنه تحقق موضوعياً، وهي أهل له، لكن هناك من يريد أن يصنع لنفسه بشكل قسري ومفتعل، موقعاً ليس أهلاً له، ولا يمكن أن يكون حقيقياً.

بغض النظر عن سعي الأشخاص لإثباب حضورهم، سواء أكان مفتعلاً أو حقيقياً، فإن الحلقة الأهم في تمظهر هذا الحضور، هو ما نطلق عليه اسم الجمهور، أو المعجبين، أو المريدين أو الأتباع أو المصفقين ..الخ وكلها تسميات تتناسب مع مجال ما من مجالات الشهرة أو النرجسية، وهؤلاء يصبحون مثل حلقة إنتاج للنرجسية المرضية، فهم بمبالغتهم بتمجيد النرجسي، إنّما يفاقمون من حالته المرضية، هذه المفاقمة تدفع المريض لزيادة معدل الغرور، والنرجسية، وهكذا تدور حلقة إنتاج تبتلع النرجسي وأتباعه، ويغدو من المستحيل لأي حوار، أو منطق علمي، أن يخترق حلقة الإنتاج هذه، وبالتالي يصبح تحطّيم هذه الحلقة، هو الطريق الوحيد للخروج منها.

في المشهد السوري تبدو النرجسية من أخطر الاضطرابات النفسية، التي عصفت ولاتزال في مختلف أوجه النشاط الاجتماعي السوري، وهي في نسبتها الساحقة ترتدي وجه النرجسية السلبي (قد يكون للنرجسية بعض تمظهراتها الإيجابية)، لكن أخطرها هو ما أطلق عليه عالم النفس الاجتماعي "ايريك فروم" مصطلح النرجسية الخبيثة  (malignant narcissism )معتبراً إياها مرضا عقليا حادا وهي جوهر الشر، وهي جذر الحالات الشريرة الأكثر وحشية ضد الإنسانية، وهذا ما يتجلى بوضوح في شخصية بشار الأسد، والتي تطابق أيضا التعريف أو الوصف الذي قاله في عام 1967م (  Edith Weigert ): النرجسية الخبيثة هي هروب نكوصي من الإحباط الناجم عن تشوش أو إنكار للواقع، ثم يكتمل الوصف حسب ( Herbert Rosenfeld  ) 1971م، بتعريفه لها بأنها نمط مشوش من الشخصية النرجسية حين تكون  العظمة، الأبهة والفخامة قد بنيت على العدوان، وحين تكون الجوانب التدميرية للذات قد اكتملت.

في تدشينه لمعمل الغاز مؤخراً، في مدينة حمص، ظهر بشار الاسد كنموذج مثالي عن النرجسية الخبيثة، حين تحدث عن المعارضين، كانت كلماته وحركات جسده، وكل ما فيه، يتمنى لو أنه يستطيع إبادة معارضيه، حتى لو كانوا ثلاثة أرباع المجتمع السوري، ف"المجتمع المتجانس" الذي نظَّر له يتطلب بالضرورة أن يُباد أي منتقد له.

ولا تحضر النرجسية الخبيثة فقط عند رأس السلطة الحاكمة، بل تحضر في تصريحات معظم المسؤولين السوريين، سواء في تصريحات "الجعفري" الذي أجاب عند سؤاله عن احتمال عودة سوريا إلى البيت العربي، بأن سوريا لم تخرج، هم من خرجوا، وهم عليهم العودة، والاعتذار! أو تصريحات "المقداد" أو تصريحات ضباط مثل "سهيل الحسن"، أو"عصام زهر الدين: أو غيرهم، فهؤلاء موظفون تابعون يعملون في مؤسسة ترتكز في منهجها على غطرسة كاذبة، وعلى نرجسية ترى في الآخرين مجرد أرقام، وهم مع قائدهم مصابون بالنرجسية الخبيثة الحاقدة، والتي جعلتهم قساة، ومتوحشين، وبلا ضمير، ولا يشعرون بالذنب لما سببوه من أذى للآخرين، وهم على الأرجح يستمتعون برؤية من يعذّبون، ولا يشعرون بالندم على ضحاياهم.

ما سأقوله لاحقاً قد يبدو صادماً، لكن إذا كانت النرجسية الخبيثة أو المتوحشة واضحة في سلوك أهم رجالات السلطة التي تحكم سوريا، فهل يمكن الاستنتاج أن من عارض هذه السلطة سيكون بالضرورة بعيداً عنها، أم أنها وبوصفها مرضاً نفسياً، فإنّها لا تتحدد بهذا الموقف السياسي أو ذاك؟

من البديهي القول أن لا علاقة للنرجسية كمرض بالموقف السياسي للمصاب به، ربما تؤثر البيئة التي تتبنى موقفاً سياسياً ما في حدة ظهوره أو ربما تزيد، ويبدو أن توفر فائض القوة عند هذا الطرف أو ذاك، هو من يحدد مدى ظهور أعراض النرجسية، ففي الفصائل المعارضة المسلحة، لم تختلف الصورة كثيراً، إلا بتفاوت الوحشية المرتبطة بتفاوت فائض القوة.

لا يعني هذا مساواة ضفتي الصراع في سوريا سياسياً، ولا أخلاقياً، لكنّه يعني بالتأكيد أن الثورة – أي ثورة – لا يمكن أن تنتصر بدلالة فائض القوة العسكرية فقط، أو دلالة حدّة هذا المرض النفسي، إنها أولاً وقبل كل شيء، إنّما تنتصر بمدى معافاة أهدافها، ومعافاة قادتها أخلاقياً ونفسياً.

لن أقول شيئا عن النرجسية المرضية للواجهات السياسية للمعارضة السورية، إذ يُمكن للفشل الذي تتوالى فصوله منذ زمن طويل أن يجيب بوضوح على هذا الأمر، وأن يخبرنا إلى أي حد نحن بحاجة لواجهات سياسية معافاة نفسياً على الأقل.