عن الموقف الأميركي والقضية السورية

2023.05.13 | 06:00 دمشق

عن الموقف الأميركي والقضية السورية
+A
حجم الخط
-A

اتّسم الموقف الأميركي من القضية السورية منذ انطلاقة الثورة بمزيد من الاضطراب والتذبذب وعدم الثبات، فمن جهة أولى لا يمكن التنكر للموقف الإعلامي المنحاز لاحتجاجات السوريين ضد نظام الإبادة الأسدي، بل ربما وصلت مرحلة الانحياز الأميركي للثورة إلى درجة الدعم الكبير على المستوى الإنساني والاجتماعي عبر منظمات مختلفة تعمل في مختلف المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، ولم يستثن الدعم الأميركي الجانب العسكري الذي طال بعض الفصائل العسكرية عبر غرفتي (الموم والموك) مع التأكيد على محدودية هذا الدعم (كمّاً ونوعاً) وذلك وفقاً لمعايير الإدارة الأميركية التي كانت تسعى للحفاظ على نوع من التوازن لا يتيح لأحد طرفي الصراع هزيمة الآخر، كما لا يمكن تجاهل ثقل الخطاب الأميركي الرسمي الضاغط على النظام  في المحافل الدولية الرسمية، هذا الخطاب الذي كان كابحاً لأي مبادرة تهدف إلى مهادنة سلطة الأسد، وفي هذا السياق ينبغي التأكيد على أن واشنطن هي التي أجّلت حملة التطبيع العربية مع نظام الأسد، حين كانت كل من مصر والأردن وسلطنة عمان والعراق توشك على تقديم مبادرة تتضمن إلغاء تعليق عضوية الأسد في الجامعة العربية في أواخر العام 2019، إلّا أن ما حال دون ذلك رسالة شديدة النبرة من واشنطن إلى الخارجية المصرية تحذّر فيها من أي مسعى من شأنه إعادة نظام دمشق إلى محيطه العربي والإقليمي.

ولكن من جهة ثانية لا يمكن تجاهل المواقف الأميركية التي كان لها تأثير حاسم وفادح الأثر على سيرورة القضية السورية، ولعل أبرز تلك المواقف تراجع إدارة أوباما عن معاقبة سلطات دمشق على أعقاب مجزرة الكيمياوي بحق سكان الغوطة الشرقية في شهر آب من العام 2013، بل تحوّل هذا التراجع من جانب واشنطن إلى صفقة بين بوتين وأوباما، ربما كانت الأسوأ ارتداداً على ثورة السوريين، من جهة أنها اكتفت بوضع اليد على أداة الجريمة في حين تركت المجرم طليقاً من دون محاسبة، بل ربما كانت رخاوة الموقف الأميركي آنذاك حافزاً لنظام الأسد لتكرار استخدام السلاح الكيمياوي عشرات المرات وفقاً لتقارير المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيمياوية، ثم انزاحت رخاوة الموقف الأميركي إلى حيّز النأي شبه الكامل حين أتاحت واشنطن لروسيا الاستفراد المطلق بالملف السوري على إثر التدخل العسكري المباشر أواخر أيلول عام 2015، كما يمكن الذهاب إلى أن الاستفراد الروسي بالحرب على السوريين تزامن مع تبلور التوجه الأميركي بخصوص القضية السورية، ونعني مبادرة واشنطن بتشكيل قوات سوريا الديمقراطية في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2015، بهدف محاربة تنظيم داعش كأولوية للوجود الأميركي في سوريا، دون أن تكون تلك الأولوية مقرونة بمحاربة نظام الأسد، الأمر الذي دفع بالحكومة التركية إلى انزياح استراتيجيتها هي الأخرى، من دعم المعارضة السورية في مواجهة النظام إلى التنسيق مع الفصائل العسكرية لمحاربة حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكري (قسد) كأولوية للوجود التركي على الجغرافية السورية، وقد كان لهذا المفصل الحاسم في العلاقات بين واشنطن وأنقرة تداعيات بالغة الأثر على القضية السورية، لعل أهمها ظهور مسار أستانا الذي كانت فيه القضية السورية بازاراً للمصالح المتبادلة بين كل من تركيا وروسيا وإيران، بل جسّد هذا المسار إطاراً شرعياً لقتل وتهجير مئات الآلاف من السوريين، فضلاً عن تمكين نظام الأسد من استعادة السيطرة على معظم المدن والبلدات التي كانت بحوزة المعارضة.

ربما كان الشعار الأميركي المطروح حول (تغيير سلوك نظام الأسد وليس إزاحته) خير تجسيد لموقف واشنطن الرامي إلى ممارسة الضغوط على نظام دمشق بخصوص علاقته مع الجانب الإيراني أكثر مما هي ضغوط ناجمة عن سلوكه حيال شعبه

لعله من الصحيح أن القضية السورية – بعد هزيمة داعش أمام التحالف الدولي -  لم تعد من أولويات الإدارة الأميركية، بل ربما باتت مسألة نظام الأسد من لواحق الملف الإيراني، وربما كان الشعار الأميركي المطروح حول (تغيير سلوك نظام الأسد وليس إزاحته) خير تجسيد لموقف واشنطن الرامي إلى ممارسة الضغوط على نظام دمشق بخصوص علاقته مع الجانب الإيراني أكثر مما هي ضغوط ناجمة عن سلوكه حيال شعبه، ولا يمنع ذلك واشنطن من الإشارة الدائمة إلى ضرورة  التزام النظام بالقرار 2254 كمعيار لسلوك الأسد، باعتباره قراراً أممياً لا يتردد الجميع من التأكيد عليه، بمن فيهم الروس أنفسهم، لكن الجميع يدرك في الوقت ذاته أنه بات أقرب إلى إطار لاستمرار إدارة الصراع في سوريا أكثر من كونه حلّاً سياسياً. ولكن على الرغم من محدودية التدخل الأميركي في سوريا بعد هزيمة داعش، فإن واشنطن ما تزال تحتفظ من نقاط التأثير والقوة في الجغرافية السورية ما يجعلها قادرة على تعطيل أو إفشال أي مشروع لا ينسجم مع توجهاتها، إذ يكفي أنها تضع يدها على الثلث الأغنى من الجغرافية السورية، عبر حليفتها قسد، وتلك اليد الأميركية على الشمال الشرقي من سوريا هي التي حالت بالفعل- وما تزال - دون وصول كل من الأتراك والروس ونظام الأسد إلى تلك المناطق، ولا يمكن إغفال أن قانون قيصر الذي وقع عليه الرئيس ترامب في شهر ديسمبر من العام 2019 كان الرادع الأهم لكثير من الدول والأطراف الساعية لإقامة علاقات رسمية اقتصادية أو سياسية مع حكومة الأسد، كما لا نحتاج إلى مزيد من القول حول ريادة واشنطن وقدرتها على أن تكون سياساتها القطار الذي يتبعه الموقف الأوروبي في أغلب القضايا العالمية.

لعله من الصحيح أن السياسات الأميركية هي مُنتَج مؤسساتي يخضع لتوازن دوائر اتخاذ القرار وليس اجتهاداً فردياً لمسؤول بعينه، ولكن آليات التعاطي مع تلك السياسات غالباً ما تتيح الظهور لبعض الفروقات بين رئيس وآخر، دون أن تخلّ تلك الآليات بالثوابت أو المصالح والأهداف، ولعل هذا ما دفع البعض للتمييز بين النبرة الأميركية في عهد ترامب تجاه نظام الأسد، وبين نبرة إدارة بايدن التي اتسمت بالكثير من المهادنة التي وجد فيها روّاد التطبيع مع الأسد بمثابة ضوء أخضر يعفيهم من تبعات وعواقب قانون قيصر.

الموقف الأميركي من القضية السورية قابلٌ للتفاعل والتغيّر إذا توفرت الشروط المقنعة والجهود الدؤوبة المخلصة

اليوم ، وفي غمرة النزوع العربي نحو تعويم الأسد وتسويقه عربياً وإقليمياً، ثمة جهود مثمرة للتحالف الأميركي من أجل سوريا، وهو عبارة عن تحالف بين عدد من المنظمات الأميركية المهتمة بالشأن السوري، تفصح هذه الجهود عن مشروع قانون سيطرحه الكونغرس الأميركي، وبتوافق بين أعضاء جمهوريين وديمقراطيين، تحت مسمى (قانون محاربة التطبيع مع نظام الأسد لعام 2023)، وبعيداً عن التكهن بمخرجات هذا المشروع أو مآلاته، إلّا أنه يمكن التأكيد على أن الموقف الأميركي من القضية السورية قابلٌ للتفاعل والتغيّر إذا توفرت الشروط المقنعة والجهود الدؤوبة المخلصة، ولا حاجة للقول إن قانون قيصر كان نتيجة مباشرة لمثل تلك الجهود المشار إليها، إلّا أنه يمكن التأكيد أيضاً على أن تلك الجهود التي يقف وراءها سوريون أميركيون مخلصون لعدالة القضية السورية ومدافعون عن بعدها الإنساني، غالباً ما تخذلها مواقف الكيانات الرسمية للمعارضة التي لا تفارق حالات ارتهانها للأطراف الوصية عليها، ولو أنها تأسست ونهجت على الإخلاص لقضية الشعب الذي ادعت تمثيله، واستطاعت الظهور بمظهر مقنع للسوريين أولاً، وللأميركيين والعالم ثانياً، حينها ربما يكون لواشنطن موقف آخر من القضية السورية.