عن الشرعية المقوضة جراء العنف على المكاتب الحزبية

2020.12.21 | 23:07 دمشق

d25da56c-4787-442f-a42d-1e67bdf843a1.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا تتعلق القضية بمجرد هجومٍ مسلح على مكاتب للمجلس الوطني الكردي، أو مقرات أحزابه. ثمة شيء أوسع ويبدو أنها خارج نطاق سيطرة الإدارة الذاتية بالمفهوم الأمني، فهي بعدم منعها لهذه الأفعال، إنما تدفع المجتمع المحلي للقول إنها لا تمتلك أيَّ سلطة أو إمكانية ضبط الحركات الخارجة عن قدرتها وسيطرتها، باستثناء عدم قبولها للرفض المجتمعي للسلوكيات المتبعة والتي تسعى من ورائها الإدارة الذاتية لفرض سطوتها وقوتها. بالعموم يمكن السؤال، استدلالا، هل القدرة الأمنية للجهات المختصة ضمن الإدارة الذاتية "لاتمون" على مروجي مظاهر العنف والقلق المجتمعي؟

وهو ما يدفع الأهالي للاعتقاد من أنها سلطة ناقصة، وإن كانت تمتلك القوة، لكن هذه السلطة تختبئ وتبتعد عن تلك القوة الخفية التي لا تتوقف عندها ولا تعترف بقوانينها. وهو ما يُحيلنا للسؤال الجوهري حول السلطة والقوة والعنف. فيما إذا كانت السلطة تمتلك إمكانية الضبط والتمايز عن القوة غير الشرعية، وهل اللجوء إلى فعل القوة بالتوافق مع القانون يبدل من طبيعة القوة غير الشرعية نفسها، ويعطينا صورة مختلفة عن العلاقات ضمن التكتل البشري والسياسي؟ أيّ يجعل له معنىً واضحاً بشمول الجميع تحت سقف هذا القانون. حينها يكون للقوة معنى شرعي واضح.

أو أن هذه القوة والقانون منذ اللحظة التي تتوارى فيها عن الظهور أمام البعض ممن امتهن العمل اللاشرعي، فإن تلك القوة لا تعود قوة قانونية. بالمقابل فإن أيَّ سلطة لتصبح قوة "شرعية" تحمل صفة رسمية مؤسساتية، فإنها أمام طريقين متداخلين لتنفيذ شرعيتها، الأول: إما عبر تمازج القانون والقوة فتغدو شرعية ومن واجب القواعد الاجتماعية إطاعتها سواء الانخراط ضمنها، أو يغدو عمل التعاون بين السلطة والشعب، هو المفهوم الأكثر رواجاً وأحقية بالتطبيق، فهي في النتيجة تعود بالإيجابية المطلقة على الواقع المحلي والمعاش. والثاني: عبر اقتناع المجتمعات المحلية بمدى جدّية الهياكل الأمنية، وما تنشره من شعور الطمأنينة والأمان، القائمين أساساً على شمول الجميع أمام قوة القانون والأمن والسلطة بالمفهوم الديمقراطي. أي أنها قوة جاءت من التصور العتيق للسلطة، تفعل ما يجب بمن يخطئ، فتشمل الجميع وفق قواعد فرض السلطة عبر قوة القانون، وهي هنا ترتفع نحو الشرعية والأخلاق في العمل السياسي وإدارة الدولة-المدينة.

الثابت أن السلطة ليست بحاجة إلى أيّ تبرير لوجودها؛ كونها جزءاً واضح من وجود التجمعات السياسية، إلا أنها تحتاج إلى الشرعية، وهذه ترتبط بمدى قبول المجتمعات المحلية لسياساتها والتي على رأسها الأمنية والتعليمية والغذائية، ومدى تصديها للعنف. أما العنف فهو ما يحصل أحياناً على شيءٍ من التبرير فيما يخص الحماية وفق مفهوم الأمن الوطني الواضح المعالم. لكنه يستحيل أن يكون شرعياً أبداً ومطلقاً.

لكن اللجوء إلى "العنف بوصفه التجلي الأكثر بروزاً للسلطة، أو السلطة بوصفها نوعاً من العنف مخففاً" فهي تحمل وجهاً واحداً وفقاً للفكر السياسي التقليدي، أنها سلطة تختص بفئات دون سواها، وهدفها تركيع وتقويض أيّ صوت مناوئ لسياساتها التي تتحول مع غياب القانون إلى تبريرية وعنفية مختصة بشرائح دون سواها، ولا تجرؤ على الاقتراب من دائرة وتشكيلات تفوقُها قدرة وسلطة وقوة وعنفاً. وهو بذلك تعريف واضح للسلطة الموازية ضمن جسد أيّ سلطة سياسية إدارية موجودة.

صحيح أن المجلس الكردي وأحزابه لم يتمكنوا من استغلال إعادة فتح أبواب مقراتهم للانتقال نحو جعل هذه المكاتب مراكز استقطاب للفعل السياسي أو التثقيفي، كما كانت إلى حد جيد في بدايات افتتاح تلك المكاتب، وإن لم تكن النشاط المطلوب. لكن الثابت أيضاً أن إعادة افتتاح تلك المقار الحزبية بعد أشهر عديدة من إغلاقها لعدم ترخيصها، هو بالأساس شيء من المقاومة السلمية. لكنها عادت بحالة أضعف من سابقتها، وإن كانت الظروف والهجرة والمزاج العام السيئ والقلق الممزوج بالخوف؛ كنتيجة للفقدان المزيد من المناطق والعنف المتولد جراء تلك الحروب، ومدى إمكانية توسيع دائرة خسارة المزيد من المناطق ذات الغالبية الكردية، كل ذلك جعل الناس ينكفئون عن متابعة أخبار تلك المقار. ووفق راهنية المكاتب الحزبية في بداية فتحها، وتعرضها للتخريب والحرق، ثم الإغلاق آنذاك، حيث حمل المحرك نحو ذلك الفعل العنفي سببا مركباً، أولها: رغبة الإدارة الذاتية من قطع التواصل المباشر ما بين تلك الأحزاب غير المرخصة والقواعد الاجتماعية التي كانت تزورها، أو تشاركها أنشطتها غير المرخصة أيضاً، وثانيتها: إن ذلك الفعل من قبل تلك الأحزاب عنى بالعرف التنظيمي والسياسي، محاولة تفتيت فرض السطوة والقوة عليهم من قبل الإدارة الذاتية.

لكن سؤال الهم الكردي الحالي: لماذا إعادة تكرار الهجوم مرة أخرى على مكاتب حزبية ما عاد الناس يرتادونها، وقطع "كوفيد19" دابر الأنشطة الشعبية أو الجماهيرية، بمعنىً أدق وبتجرد كبير: مقار ومكاتب المجلس الكردي وأحزابه، ما عادت تستقطب المجتمع المحلي كما كان في بداياته، للأسباب المذكورة أعلاه. مع ذلك فإن الحرق يتعدى الفعل الخارج عن القانون ليقول رسالتين، أولهما: هل يعني ذلك فقدان الإدارة الذاتية أيَّ سلطة أو قوة على فئات لا تعترف هي بها أساساً. ثانيتها: أن الخلل الأمني قد وصل إلى ذروته مع عدم تمكنهم من وضع حد لممارسات تضر بالأمن المجتمعي.

وربما أصبح من الصعب إعادة تكرار مصطلح السلم الأهلي، فيستعاض عنه وللضرورة، بالأمن الأهلي، لكن فقدان الأخير، إنما يعني أن حظوظ القانون والسلطة الشرعية تتضاءل بتناسب مع تنامي القدرات التنفيذية غير الشرعية واللاقانونية التي لا يمتلكها سوى فئات محددة، مقابل فقدان الإدارة الذاتية القدرة على ضبط إيقاع أيّ عمل منافي للقوانين التي هي وضعتها. دون نسيان توسع الهوة ما بين الأحزاب وقواعدها، والمحيط الاجتماعي، وبل إن حواضن تلك الأحزاب التي تعاطفت معها لما لاقته من ظلم وتعدٍ عليها، مقابل سلميتها وأنشطتها الميدانية، فإنها هي الأخرى ما عاد تاريخها أو سجلها الخالي من العنف والتمادي يشفع لها، فهي أيضاً أضحت تمارس العنف الذهني والإقصائي والإلغائي مع أقرب مقربيها، رُبما هي أحجية نفسية، تلجأ إليها تلك الأحزاب للتنفيس عن حجم الكبت والعنف الممارس ضدها، فتعوضه بقواعدها.

إن تاريخ السنوات العشر الأخيرة، بسجله الغريب الذي يضم أحداثاً وتوتراتٍ وأوجاعاً نفسيةً، يقول لنا شيئاً آخر تماماً. فكما تعيش الإدارة الذاتية في برجها العاجي ويقبع الشعب في أسفل القاع الاجتماعي وتحت خط الفقر والبؤس والحرمان. فإنَّ القواعد الاجتماعية والحزبية هي الأخرى تقترب بخطوات متسارعة نحو الفصل عن القبّة الحديدة التي شكلتها الطبقات المتحكمة بالحياة الحزبية.