عن السكوت والمُهادَنة في أحاديث السوريين

2022.01.21 | 04:43 دمشق

assd.gif
+A
حجم الخط
-A

لئن اشتركت الثورة السورية مع سواها من ثورات الربيع العربي بدوافعها وأهدافها، إلّا أنها تنفرد، من حيث مظاهرها ووقائع سيرورتها بعدة سمات، لعلّ أبرزها: الدخول المبكر في مسار العنف، ثم ارتفاع وتيرة العنف إلى أطواره الدموية المفجعة، ومن ثم انفتاح الجغرافية السورية على المزيد من التدخل الإقليمي والدولي، إلى درجة أفضت إلى التدويل المطلق لقضية السوريين الذين فقدوا أي نفوذ على قضيتهم مقابل هيمنة النفوذ الخارجي، وهذا بالطبع قد أدّى إلى تعقيد بالغ في مجمل المسارات السياسية ذات المرجعية الأممية.

إلّا أن بعضاً من السوريين لا يرى في هذه السمات سوى مظاهر مباشرة، أو نتائج طبيعية لأسباب تعود إلى ما قبل انطلاقة ثورات الربيع العربي، وهم يعنون بذلك بدايات تأسيس الدولة الأسدية، وبنيتها، وطبيعة تكوينها من جهة، وطبيعة ردود فعل المجتمع السوري على ممارسات السلطة الأسدية طوال حقبتي الأب والابن من جهة أخرى. إذ يرى كثيرون أن السبب الأهم الذي أفضى إلى تغوّل السلطة الأسدية وشراستها المفرطة، ومن ثم إلى استحكام قبضتها على الدولة، هو نهج المهادنة الشعبية لنظام الحكم، بل والسكوت الطويل الذي تحول شيئاً فشيئاً إلى حالة من الموات المجتمعي أمام النزوع المتسارع للسلطة نحو مزيد من الهيمنة.

التداعيات الموجعة لتلك المواجهة لم تقف عند استهداف الإخوان المسلمين فحسب، بل شملت المجتمع السوري برمته

ويرى أصحاب هذا الرأي أن ثمة مفاصل أو منعطفات في تاريخ الدولة الأسدية، تجسّدت فيها مواجهات بين الشعب والسلطة، وكان يمكن لهذه المنعطفات ألّا تنتهي بما أراد لها آل الأسد، ولكن استمراء نزعة المهادنة وإيثار السكوت قد أتاحا لنظام الحكم استمرارية التسلّط، بل أتاحا له فضاءً أوسع لترويض السوريين على الظلم واستمراء المهانة، ولعل أبرز تلك المحطات الفاصلة في تاريخ الدولة الأسدية هي المواجهات الدامية في أواخر سبعينيات القرن الماضي وأوائل الثمانينيات، ولعله من الصحيح أن تلك المواجهات كانت بين جماعة الإخوان المسلمين، وربما بمبادرة منهم، وبين السلطة، إلّا أن التداعيات الموجعة لتلك المواجهة لم تقف عند استهداف الإخوان المسلمين فحسب، بل شملت المجتمع السوري برمته، إذ لا يمكن لمجتمع أن يسكت على تدمير مدينة بأكملها وقتل ما يزيد على أربعين ألفاً من سكانها بحجة محاربة تنظيم الإخوان، وكذلك لا يمكن تبرير مجزرة تدمر التي أودت بقتل ( 800 ) من السجناء خلال ساعتين فقط، تحت ذريعة قيام مجموعة من الإخوان بمحاولة اغتيال حافظ الأسد، وكذلك لا يمكن السكوت على تحويل المدن السورية إلى ثكنات للأمن والجيش وإطلاق الصلاحيات الكاملة لعناصر المخابرات كي يفتكوا بالمواطنين ويروعوا الصغير والكبير، بل ثمة العديد من المجازر التي ارتكبتها السلطة في عقد الثمانينيات، بالتوازي مع تغوّل شديد للأجهزة الأمنية والجيش، فضلاً عن أن ارتداد السلطة نحو المزيد من التوحّش كان يطول جميع شرائح المجتمع وكذلك كل القوى السياسية حتى أقصى اليسار، وليس الإخوان وحدهم.

وثمة مفصل ثان – وفقاً لأصحاب هذا الرأي – لا يقل عن الأول أهمية، ويعنون به سكوت السوريين عن مبدأ توريث السلطة حين مات الأسد الأب عام 2000 ، بل وانخداعهم بالوعود الزائفة التي أطلقها الأسد الوريث فيما يخص الإصلاح وتوسيع دائرة الحريات، بل إن تصديق شريحة كبيرة من السوريين لبعض المظاهر التي توحي بانفراج سياسي نسبي، كالمنتديات السياسية التي أقامها بعض الناشطين، وغض النظر من جانب الأجهزة الأمنية عن بعض الأنشطة الإعلامية والسياسية لأحزاب المعارضة، إن هو إلّا انخداع إلى حدّ السذاجة، وخاصة أن السلطة عادت إلى اجتياح كل تلك المظاهر التي غضّت الطرف عنها، حين أدركت أن مفعولها قد تحقق، أي أنها أسهمت في إفراغ بعض الاحتقان الشعبي الذي ربما كانت تتوقعه من الشارع السوري، كما أنها شاغلت المجموعات المعارضة لبعض الوقت، ريثما يتمكن الحاكم الجديد من استقراء المشهد الأمني والعودة بقوة إلى منهج الترويع والتوحّش.

بالطبع، لا أحد من السوريين يجهل أسباب السكوت، كما ليس بمقدور أحد تجاهل مقدار العنف الذي مارسته، وما تزال، السلطة الأسدية بحق السوريين، كما لا أحد يستطيع التنكّر لتضحيات السوريين وعذاباتهم  طوال نصف قرن، فضلاً عن جميع المعطيات السياسية منذ الثمانينيات وحتى عام 2000، التي كانت تؤكّد غياب أي رادع دولي أو حقوقي لممارسات السلطة حيال الشعب، ما يعني أن مقولة (السكوت والمهادنة) لها ما يبررها، إذ لا يمكن أن يتحمّل السوريون ما لا تقوى عليه طاقتهم، ولكن يردّ آخرون بالقول: إن التضحيات التي قدمها السوريون منذ ثورة آذار 2011 وحتى الوقت الراهن، تفوق بأضعاف المرات ما قدمه السوريون أثناء عقد الثمانينيات، وإن هذه الأضعاف الهائلة التي جسّدت مأساة كبرى للسوريين، ما هي إلّا نتيجة انتكاسات الاحتجاج السوري، ومن ثم ارتكاسها إلى الخلف، إذ يرى أصحاب هذا الرأي أن ازدياد توحّش السلطة وتعزيز منهج العنف ينبغي أن يجدد القناعة باستبعاد منهج المهادنة أو السكوت، لأن الهروب من مواجهة المشكلة سوف يؤدي إلى مراكمة مشكلات أخرى، حتى تصل مرحلة الاستعصاء، كما في الحالة الراهنة.

ماذا لو اكتشفنا بعد حين أن هذه القيادة أو السلطة هي جزء عضوي من المؤامرة الكونية على قضيتنا الوطنية؟

ربما ليس من المهمّ أو المفيد الاستفاضة في مناقشة مقولة (السكوت والمهادنة) في الوقت الراهن، أو هكذا يبدو للكثيرين، باعتبارها باتت جزءًا من الماضي، ولكن ما يبرر للبعض استحضارها من جديد هو قناعتهم باستمرارية حضورها (كمنهج في التفكير والعمل) لدى شطر كبير من جمهور الثورة، ذلك الشطر المتمثل بمن يعتقدون أن المواجهة الكبرى التي توجب حشد كل الجهود هي في مواجهة المؤامرة الكونية على القضية السورية، تلك المتمثلة بالنظام والروس والإيرانيين وإسرائيل ووووو، وربما العالم كله في لحظة من اللحظات يغدو متآمراً على قضيتنا، وإن أي انشغال بمواجهة جانبية أخرى، لن يكون إلّا تبديداً للطاقات واستنزافاً للحمتنا الوطنية، بل ربما يصبح ضرباً من الخيانة، وخاصة إذا كان يؤدي إلى شق الصف الوطني أو النيل من تماسك القيادة أو السلطة، حتى وإن كانت القيادة أو السلطة على درجة من الاهتراء والفساد، فإن مواجهتها يجب أن تُؤجل، ريثما يتحقق النصر من خلال سحق المؤامرة الكونية، لكنّ ثمة من يباغت الآخرين بسؤال: ماذا لو اكتشفنا بعد حين أن هذه القيادة أو السلطة هي جزء عضوي من المؤامرة الكونية على قضيتنا الوطنية؟ ثم ألا يجسّد هذا المنطق استنساخاً لمنطق نظام الأسد وسلوكه معاً، حين أوهمنا على مدى نصف قرن بأنه يهيننا ويذلّنا من أجل أن يكون قوياً في محاربة إسرائيل، وقد انتهى به الأمر إلى أنه بات يستقوي بإسرائيل علينا؟ لعل حضور هذا التساؤل الدائم في أحاديث السوريين هو مبعث قلق حقيقي على مستقبل قضيتهم.