عن الثورة والتحريفية

2022.09.18 | 06:20 دمشق

عن الثورة والتحريفية
+A
حجم الخط
-A

تعود أولى استخدامات مصطلح التحريفية سياسيّاً إلى بدايات القرن العشرين، حيث ظهر المصطلح في إبان الصراعات الداخلية التي نشأت بين أطراف وشخصيات في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، حول آليات وطرق الوصول إلى السلطة وتصوراتهم عن المرحلة المقبلة. في ذلك الحين، ظهرت جهة ما ضمن هذا التيار وقررت احتكارها للصوابية السياسية بصورة مطلقة، واستطاعت أن تصل إلى ذلك، ومن ثَمّ أخذت توجّه الاتهامات إلى كلّ من يخالفها الرأي، وكانت أولى تلك الاتهامات، التحريفية، ثم الارتداد، ثم بلغت الاتهامات درجة الخيانة؛ فأودى ذلك بملايين البشر إلى المنافي وغياهب السجون والإعدامات. ثم انتقلت عدوى الاتّهامات بين أوساط الماركسيين كانتقال النار في الهشيم، وصاروا يصِفون كلّ من يخالفهم الرأيَ بالتحريفي والمرتد، أو بالعميل والخائن، ويقابل ذلك في مصطلحات اليوم تهمة "إرهابيّ".

استلهم نظام البعث في سوريا نموذج النظام الستاليني من طلائعه حتى شيوخه، لكن بتشويه ومسخ كبيرين

كان أول ضحايا تلك العملية، كارل كاوتسكي -منظّر الماركسية في حينها- الذي انتقد الانتقال إلى الاشتراكية في روسيا، كونها بلدًا فلاحيًّا متأخرًا، بينما دافع عنها لينين، بأنها أضعف حلقات الرأسمالية، ومن السهل تحطيمها، مكرّسا كتاباً ضد كاوتسكي، بعنوان: "الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي"، متهماً إيّاه بالارتداد عن جادة الصواب التي يمتلكها البلاشفة زوراً، الذي استولوا على اسم الأكثرية رغم أنهم الأقلية. وبينما كان كاوتسكي يتحدّث عن ضرورة إنجاز المرحلة الديمقراطية وعمادها الطبقة البرجوازية التي لعبت دوراً تقدّمياً في إرساء التصنيع والديمقراطية، وعموم الحريات العامة، أصرّ لينين على تكريس دكتاتورية البروليتاريا، التي كان مسار تطورها الطبيعي الدكتاتورية المرعبة في عهد ستالين، حيث أرست نموذجاً للاستبداد المعمم، تحت غلاف الدفاع عن مصالح الكادحين ومناهضة الإمبريالية.

استلهم نظام البعث في سوريا نموذج النظام الستاليني من طلائعه حتى شيوخه، لكن بتشويه ومسخ كبيرين، فاحتكر بقوة السلاح والاعتقال الحقَّ والصواب، مستجمعاً حوله أحزاباً كاريكاتورية تزعم أنها تمتلك "بوصلة" الوطنية والتقدّم، التي تتلخص في الوقوف ضد الإمبريالية، مهمتها الدفاع عن "الخط الوطني" للنظام التقدمي، مستندة إلى كليشيهات عتيقة فاقدة للمعنى من جهة، ومن جهة أخرى، إلى علاقة تبعية مع قلعة "النظام الاشتراكي العتيد" التي تبددت بين عشية وضحاها، كأنها بيت من ورق، مبررين لنظام الأسد سلوكه الإجرامي بحق المواطنين من اعتقال وتعذيب وقتل، وخاصة في حملة الاعتقالات الكبرى التي شنها النظام صبيحة 8 من تشرين الأول 1980، وغادر حافظ الأسد ليوقع معاهدة الصداقة مع قلعة الاستبداد البريجنيفية بحق مختلف القوى الديمقراطية، بحجة أن من يقف ضد "النظام الوطني" المناهض للإمبريالية فهو في خندق الإمبريالية، وبالتالي فهو عدو وخائن.

في أول التسعينيات، انهارت القلعة المتمثلة بالاتحاد السوفياتي، ووضعت النظرية برمتها على المشرحة، خاصة بعد انتصار الولايات المتحدة وبروز تيار المحافظين الجدد فيها، وبالمناسبة كان أغلبهم ذا مرجعية ماركسية تروتسكية، فقرروا نشر الديمقراطية في العالم المتخلّف بالقوة، التي تحولت لاحقاً إلى أيقونة جديدة، إضافة إلى الليبرالية، وتغيرت بين ليلة وضحاها من ألعوبة برجوازية غايتها تضليل "البروليتاريا"، إلى البوصلة الجديدة، كما غدت قلعة الإمبريالية أيضاً القبلة الجديدة التي تتطلع أنظارهم إليها في تخليصهم من الأنظمة التي كانوا من داعميها ذات يوم، لكنّهم رغم التحول الشكلي ظلّوا في جوهرهم مخلصين وأوفياء لأصلهم، وظلوا يعدّون أنفسهم الطليعة القابضة على البوصلة، فالديمقراطية بالنسبة لهم لا تكون مشروعة إلا إذا أوصلتهم إلى السلطة، وإلا فليس لها عندهم سوى الاتهامات.

مع انطلاقة ثورات الربيع العربي في نهاية عام 2010 وبداية 2011، ومنها في سوريا، مطالبة برحيل أنظمة الطغيان والنهب المزمنة، التي حوّلت البلاد إلى سجون ومزارع للنهب، انصدمت عموم التيارات السياسية المؤيدة كما المعارضة، فالمؤيدون لنظام الأسد عدّوا تلك الثورات مشروعة ضد نظام مبارك في مصر وبن علي في تونس، أما في ليبيا وسوريا فهي غير ذلك، إذ عدّوها مؤامرة ترعاها الإمبريالية لتدمير قلعة "المقاومة"، أما المعارضون فقد أيّدوا تلك الثورات، بعد تفكير، فكانوا معها، لكن إذا.. حيث رأوا أن تلك الثورات تفتقر إلى القيادة، وأن لا أحد أصلح للقيادة منهم! فهم الطليعة، وهم الذين يمتلكون الرؤية الشاملة، سواء كانت مستمدة من أصل إلهي أو وضعي، وعلى الرغم من إقرارهم بأنهم كانوا متخلفين عن الثورة وجمهورها ومطالبها، كانت قفزتهم من الخلف إلى القيادة وبالاً على الثورة وعلى البلاد.

مع استباحة نظام الأسد للبلاد والعباد، وتعميق حالة القمع ووصولها إلى حالات مرعبة، قد لا يصدّقها البعض عند الحديث عنها، كأنها أساطير، لجأ الثوار إلى حمل السلاح في مواجهته، وهو الأمر الذي رتب كثيراً من الأعباء التي أرهقت الثورة، وأهمها التدخلات الإقليمية وخلق وكلاء لها ولمصالحها، بعيداً عن مطالبات الثوار الذين دفعوا هم والسوريون عموماً وما يزالون يدفعون ثمن ذلك الارتهان حتى اليوم، لكن كل ذلك لا يلغي حق الناس في الدفاع عن أنفسهم وازدياد إصرارهم على إسقاط النظام. عند هذه النقطة، قرّر أصحاب البوصلة الخروج من البلاد، وهم غير ملومين في ذلك، إذ من حقّهم النجاة من القتل، لكن الأمر الذي لا يمكن تفسيره هو أنهم لم يتخلّصوا من حقّهم المزعوم في امتلاك البوصلة، ومعرفة الطريق الصحيح، ومن ثم صاروا يوجّهون اللوم إلى الثورة والثوار، ويعلنون أن الثورة تأسلمت وانحرفت.

لا يمكن القول إلا أن الثورة مستمرة وستظل مستمرة، رغم حالة الهزيمة الحالية، وإنها ستتجدد ما دامت أسبابها موجودة

يمكن تفهّم سبب الأمر الأول (الأسلمة) أنّ معظم الداعمين دولاً وأفرادًا هم ذوو توجه سلفي، لكن الجذر في تحوّل بعض الثوار إلى السلفية ليس الميل الحقيقي إلى هذا الاتجاه، إنما هو القوّة المفرطة التي استخدمها النظام وداعموه ضدهم، مثل الصواريخ والطيران والإهانات العميقة في المعتقلات، كل هذا من دون الحديث عن المشاركة الخجولة للمدن بما تشكله من قاعدة لبناء الديمقراطية. أما الأمر الثاني، وهو الانحراف، فأوّل الأسئلة التي تستدعي الإجابة في سياقه: عَن أي مسارٍ انحرفت الثورة؟! وهل للثورات عبر التاريخ طريق ملكي مرسوم ينبغي على الجميع سلوكه، كأنه طريقة حل معادلة في الرياضيات؟! إن ما يترتب على هذا الاتهام أنه لم يعد هناك ثورة، أو أن الثورة هُزمت وانكسرت. وقد فعلوا ذلك مستغلين الوضع الذي آلت إليه الأمور نتيجة تكافل عوامل عدة، أهمها البطش والقتل الذي أنتجه الحلف الموالي للنظام، روسيا وإيران، إضافة إلى سيطرة قوى الأمر الواقع المرتهنة التي فضلّت مصالحها على حساب مطالب الناس في التغيير، وكتيّب الثورة عندهم ينفي وجود ثورة، ما لم يكن لها قيادة واعية تمتلك رؤية ثورية، وهم أصحابها، متناسين أن لينين نفسه ذكر ذات يوم أن طريق الثورة ليس مثل جادة نيفسكي (شارع مستقيم في بطرسبورغ).

لا يمكن القول إلا إن الثورة مستمرة وستظل مستمرة، رغم حالة الهزيمة الحالية، وإنها ستتجدد ما دامت أسبابها موجودة: طغيان نظام الأسد ونتاجاته، وإنّ طريق الثورة من بدايته إلى نهايته لا يُرسَم في الأذهان وفق كتالوغ معين، فطريقها -كما يعلم من يعيش فيها- وعِرٌ ومتعرّج وفيه عراقيل وعقبات، بمقدار تعرج الحياة، وليس أمام الذين سلكوا هذا الطريق إلا الثبات والمضيّ إلى آخره، يحدوهم الأمل بأنهم سيصلون، مهما طال الزمن وامتدّ الطريق.