عن الانتقال الديمقراطي وإشكالياته

2020.09.25 | 00:44 دمشق

sdsdsd.jpg
+A
حجم الخط
-A

يحمل كتاب الدكتور عزمي بشارة "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته" الصادر حديثاً عن المركز العربي للبحوث ودراسة السياسات، يحمل حساً نقدياً عالياً ضد نظرية التحديث وهو بالتأكيد محق في الكثير من نقده، حيث يخصص المئتي صفحة الأولى من الكتاب لنقد نظرية التحديث على ما سطرها كل من ليرنير وليبيست، لكنه بنفس الوقت يبدو أقرب إلى نظرية روستو التي كان قد انتصر لها في كتابه الطليعي المبكر "في المسألة العربية"، والذي يحيل له تكراراً وأعتقد أنه يشكل عصب الفكر السياسي لعزمي بشارة ونظريته في النظم السياسية العربية ومستقبل تحولها الديمقراطي. روستو الذي اشترط تحقق مفهوم الجماعة الوطنية قبل تحقق شروط الديمقراطية في دولة ما.

وبشارة الفيلسوف لا يصرف وقتاً كبيراً في تعريف الديمقراطية لأنه بالنهاية يدافع عن معناها الفلسفي ولا يعنيه كثيراً تعريفها التقني الذي تطور كثيراً فيما يسمى مؤشرات التحول الديمقراطي، وهو لذلك يربط الديمقراطية من بداية كتابه إلى نهايته بالليبرالية " لقد أصبحت الليبرالية في عصرنا ديمقراطية بالضرورة، والديمقراطية ليبرالية، ولذلك، فحين نستخدم في عصرنا مصطلح النظام الديمقراطي، فإنما نعني نظاماً ديمقراطياً ليبرالياً" (ص18)

ولذلك فبشارة يميل كما قلنا إلى المفهوم الفلسفي للديمقراطية رغم أن معظم الكتب التي تعاملت مع نظريات التحول الديمقراطي تحاول أن تقارب المفهوم من زاوية عملانية، أي تتعرف على مفهوم الديمقراطية من زاويتها الإجرائية وتفضل حينها التعريف التقني للمفهوم.

دروس الانتقال الديمقراطي في الحالة العربية لا تدخل اليوم من باب الجدل النظري كما كان الحال سابقاً، وإنما ربما تمثل مسألة حياة أو موت للدولة العربية أو للشباب العربي

لكن راهنية الحدث العربي والهم الديمقراطي الذي يحمله بشاره يجعله يضع المفهوم الديمقراطي اليوم حاجة عربية تحتاج منا الكثير من التفكير والتأمل، فدروس الانتقال الديمقراطي في الحالة العربية لا تدخل اليوم من باب الجدل النظري كما كان الحال سابقاً، وإنما ربما تمثل مسألة حياة أو موت للدولة العربية أو للشباب العربي الذي عايشته طموحات كبرى عبر خروج المظاهرات الضخمة التي ملأت الشوارع العربية من تونس إلى القاهرة ومرورا بطرابلس وصنعاء ودمشق والجزائر والخرطوم، لكنها للأسف جوبهت "برفض الأنظمة الإصلاح واستعدادها لاستخدام أقصى القمع في مواجهة مطالب الانتفاضات والثورات الشعبية" (ص21).

يبدو الكتاب محاولة على مستوى عال من الدقة والبحث والتمحيص والمقارنة في تفسير أسباب فشل دول الربيع العربي باستثناء تونس (وربما الجزائر والسودان) في التحول من أنظمة عسكرية او تسلطية إلى أنظمة ديمقراطية، وبدلاً من ذلك تكاد الدول جميعها تسقط إن لم تكن قد سقطت بالفعل في براثن حرب أهلية من الصعب التكهن بنهايتها أو مخرجاتها التي ستؤول إليها، يبدو مصير اليمن وسوريا وليبيا ونهايتها إلى دول فاشلة مؤلماً للكثير من الديمقراطيين العرب الذي وضعوا أحلاماً كبيرة على الربيع العربي. ولذلك يأتي هذا الكتاب بالنسبة لهم محاولة للإجابة وبنفس الوقت وضع خريطة طريق من أجل إنجاح التجربة الديمقراطية في نسختها الثانية.

يضع بشارة المسؤولية من بداية الكتاب وحتى خاتمته على "رفض الأنظمة أي انتقال متدرج للسلطة بالإصلاح من أعلى، أو حتى احتواء من خرجوا إلى الشوارع بالحوار السلمي والمساومة، ويتحملها أيضاً عدم فهم المعارضات في بعض الحالات مدى تعقيد تركيب المجتمعات العربية في المشرق، وتعقيدات تداخل الاجتماعي والسياسي في ظل أنظمة الاستبداد، وهشاشة بنية الدولة في بعض الحالات، فضلا عن تجاهل تجارب الانتقال إلى الديمقراطية في العالم، وحدود دور التعبئة الشعبية فيه، كما تتحملها حركات دينية سياسية متطرفة حاولت استغلال ضعف الدولة في مرحلة الثورات لفرض نفسها على المجتمعات بالقوة" (ص30).

فهو يرفض قطعاً النظريات أو المقولات التي تحاول أن تفسر أسباب هذا الفشل من خصوصية المنطقة العربية وعدم تشابهها مع مناطق أخرى من العالم، وإنما تنبع تماماً من مقومات الدولة العربية الحديثة التي حكمت في تلك البلدان، ورسوخ فكرة الدولة فيها، معتمداً على دراسة مدى قوة الدولة في قدرتها على التحصيل الضريبي.

بشارة يميز بين النظريات التي تحاول أن تتنبأ بالانتقال الديمقراطي وبين النظريات التي تحاول أن تضع شروطاً لتثبت الديمقراطية، ويعتبر أن شروط هذا الانتقال تكمن في ست مراحل رئيسية

فبشارة يميز بين النظريات التي تحاول أن تتنبأ بالانتقال الديمقراطي وبين النظريات التي تحاول أن تضع شروطاً لتثبت الديمقراطية وضمان ثباتها وديمومتها. فهو يتفق "مع منظري الانتقال على أن شروط نظرية التحديث تتعلق بموضوعة «استدامة الديمقراطية» لا بنشوئها"( ص 39)، ويتفق معهم على ضرورة توافر شرط الإجماع على الدولة، ويعتبر أن شروط هذا الانتقال تكمن في ست مراحل رئيسية:

1- إمكانية أن تنشق النخبة الحاكمة بسبب الثورات وليس بسبب إصلاحات من أعلى.

2- ضرورة توافر حد أدنى من الثقافة الديمقراطية لدى نخب المعارضة والسلطة في ما يتعلق بالتوافق على الإجراءات على الأقل والالتزام بها، وضرورة الاتفاق على مبادئ المواطنة (الحقوق السياسية والحريات المدنية والواجبات) في مرحلته الثانية المتعلقة ببناء المؤسسات. وهذا يعني أهمية توافر بعض مكونات ثقافة سياسية مساندة للديمقراطية لدى النخب السياسية الفاعلة.

3- من الضروري ألّا يعارض الجيش عملية الانتقال إلى الديمقراطية، فإما أن يحّيد نفسه وإما أن يدعمها، فهي لا تتحقق إذا وقف ضدها

4- كلما قلّت أهمية الدولة جيوستراتيجياً قلّ وزن الدور السالب للعوامل الخارجية الدولية والإقليمية.

5- لا يمكن حكم الدولة بأكثرية ضئيلة في مرحلة الانتقال، ولا سيما إذا كان جهاز الدولة معارضاً للانتقال الديمقراطي. ولا بد من وحدة قوى التغيير على الرغبة في إنجاح الانتقال ورفعه فوق التنافس على السلطة بينها في هذه المرحلة.

6- من الضروري الاهتمام بالتنمية الاقتصادية ونشر التعليم (وبالتنمية البشرية عموماً) في مرحلة ترسيخ الديمقراطية. (ص39).

ستكون لدينا وقفة مطولة مع الكتاب نحاول فيها التوقف عند أبرز الملامح النقدية التي قدمها لنظريات التحول الديمقراطي من نظرية التحديث إلى نظرية التسلطية البيروقراطية والتبعية.