عمى الثلج السياسي

2021.12.18 | 06:16 دمشق

5c89ada70c5b307d-1024x682.jpg
+A
حجم الخط
-A

يصاب الناس في المناطق والأقاليم التي تكسو فيها الثلوج الأرض ويعمُّ فيها البياض لشهور أو يدوم مع أيام العام شتاء وصيفًا بمرض عمى الثلج، عمى الثلج في معجم لسان العرب اسمه القَمَر: قَمِرَ الرجلُ يَقْمَرُ قَمَرًا: حارَ بصره في الثلج فلم يبصر، وهو انخفاض مؤقت في الرؤية بسبب ضوء الشمس الساطع المنعكس عن الثلج، أو بسبب تعرض العينين للأشعة فوق البنفسجية. وقد اشتق العرب لعمى الثلج اسم كوكب القمر، ضدًا من الشمس، لأن الشمس بيان، والقمر إبهام، القمر هو كوكب الليل الذي يقلُّ فيه النظر ويكثر اللبس، ومن أمراض العين العشا الليلي، وأطلق على عدة شعراء لقب الأعشى لقلة بصرهم، ومن المعتاد أن يسترد المرء بصره من عمى الثلج خلال يوم، وفي بعض الأحيان، يجد المرء عناء في التمييز بين الألوان بعد الإصابة بالعمى الثلجي، ويرى المرء المصاب بالعمى السياسي الشحم ورمًا والعدو صديقًا، وتستوي عنده الأنوار والظلم.

يختفي العمى الثلجي عندما يريح المرء عينيه ويلزم بيته، يمكن أن يؤدي التعرض الطويل للضوء المنعكس من الثلج البارق، في حالات نادرة، إلى اعتلال الشبكية، وهو اضطراب قد ينجم عنه فقدان دائم للبصر. تقي النظارات الشمسية أو النظارات السوداء من عمى الثلج، وقبل معرفة النظارات المعاصرة الزجاجية كان سكان المناطق القطبية الأسكيمو يضعون إطارات خشبية حول عيونهم لتقيهم من ارتداد أشعة الثلج على العين، لكن ثمة عمى يصيب الحواس الأخرى، مثل عمى الشمّ الذي يصيب الأنف بعد الكورونا، فتتعطل حاسة الشم لأيام وشهور، وعمى الأذن، وهو صمم تصاب به الأذن من كثرة ارتداد موجات الأناشيد التي تبثها الإذاعة على طبلة الأذن المسكينة، أو سماع التحليلات المتشابهة التي تبثها الفضائيات من ألسنة نجوم الكلام ونجوم السينما، فتكتسي كلها إزارًا واحدًا، ويحذر من الانزلاقات الفكرية في المنعطفات التاريخية الحرجة.

الثلج قليل الهطل في الشام، وغير معروف في الجزيرة العربية والبوادي عمومًا، لكن للبوادي ثلجها البني اللون، الرمل الساخن الذي لا يذوب، الثلج رفيق الذكريات وصاحب الحنين

عندما يهطل الثلج، تهمد الحركة، ويهيمن السكون على العالم، وتقر الناس في بيوتها، والطيور بأعشاشها، وتتكفن الأرض بكفن أبيض، ولعلها تلبس ثوب العرس، فالعروس تجمع بين فرحها بالبيت الجديد وحزنها على فراق الأهل، فالأرض ستُزفُّ إلى فراش فصل جديد بعد طلاقها من زوجها القديم الذي أفرط عليها، الثلج قليل الهطل في الشام، وغير معروف في الجزيرة العربية والبوادي عمومًا، لكن للبوادي ثلجها البني اللون، الرمل الساخن الذي لا يذوب، الثلج رفيق الذكريات وصاحب الحنين.

يوم واحد من الثلج يعطل الحياة في بلاد الثلج السياسي الأسود، عادة ما تصدر أجهزة الدولة تحذيرات مشكورة تهيب بالناس إلى عدم الخروج إلى أعمالها، وتجنب تحريك السيارات الحكومية خشية الانزلاقات، فليس لديها جرافات لجرف الثلج عن الطرقات كما تفعل الدول الأوروبية، التي يمكث فيها الثلج ضيفًا لشهور، وتكوي الثلج بالملح على الدروب، فالملح عدو الثلج، وإن كانا من مذهب اللون الواحد، حتى إن الثلج بعد ذوبانه يخلف ثلجًا آخر هو الملح.

تكثر حوادث الدراجات، فأكثر المترددين على الأطباء هم المنزلقون على الثلج، ولو طالت أيام الثلج في عواصم الظلم الأسود لمات الناس جوعًا بسبب انقطاع الطرقات والمؤن، وتقصف أكبال التيار الكهربائي، وإن الله أرحم بنا من أن يجمع علينا مصيبتي الثلج الأبيض والثلج الأسود.

في الثلج يصنع الناس تماثيل لعبًا ولهوًا، ويضعون على رأس تمثال الثلج قبعة، وفي أنفه جزرة، وما إن تظهر الشمس حتى يذوب الثلج، ويخلف وراءه أرضًا تشبه جلد الأجرب، أما الثلج الأسود فقد يمكث طويلًا، وعند ذوبانه بهتاف حرية أو حرب أهلية، يخلف فيضانات دموية، وخرابًا كثيرًا.

لا يبقى من تمثال الثلج المضحك سوى جزرة مفيدة للنظر، أحيانًا يفاجأ المرء بشخصية عامة معروفة ومشهود لها بالصلاح مثل مفتي القدس السابق عكرمة صبري الذي وقف مع النظام السوري، وكذلك الروائي الفلسطيني رشاد أبو شاور والمطران عطا الله حنا، وهم من فلسطين، وأهل فلسطين أعرف بالظلم من غيرهم، وقد اعتذر عكرمة صبري بعد أن تعافى من عمى الثلج السياسي، أما الباقيان وأمثالهم كثير فما زالوا يرون الظلام نورًا والنور ظلامًا.

 أحيانا تتحجر القلوب من برد الثلج: " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".