على هامش اجتماع منصّة المستقليّن في الرياض

2019.12.31 | 21:56 دمشق

mnst_almstqlyn.jpg
+A
حجم الخط
-A

وجّهت وزارة الخارجيّة السعودية الدعوة لعدد من السوريين المستقلّين، أو بالأحرى من غير المحسوبين على أي كيان أو تكتل أو تنظيم سياسي من فئات المعارضة السوريّة المنضوية في هيئة التفاوض. بلغ عدد المدعوّين 80 شخصاً، لكن حضر منهم 65 فقط وهؤلاء شكّلوا ما يسمّى بالهيئة العامّة للمستقلّين. اجتمع المؤتمرون يومي 27 – 28 كانون الأول عام 2019 وانتخبوا من بينهم ثمانية أعضاء لتمثيل كتلة المستقلّين في هيئة التفاوض السورية، كما انتخبوا 13 عضواً كأمانة عامّة تشكّل مرجعيّة إداريّة عليا لهؤلاء الممثلين. ويمكن اعتباراً من هذا المؤتمر أن يُطلق على هذه المجموعة اختصاراً تسمية منصّة المستقلّين.

تمّ تشكيل هيئة التفاوض السورية بعد سلسلة من الأحداث والتطوّرات كان من بينها مؤتمر الرياض 1 والرياض 2 حتى وصلت إلينا في شكلها الراهن، وقد كان لكلّ كتلة أو منصّة مرجعيّة ما لاختيار أعضائها الممثلين في الهيئة، باستثناء المستقلين الذين لم يكن لهم حتى تاريخه مرجعيّة محددة للاضطلاع بهذه المهمة. ومن المعلوم أنّ هيئة التفاوض تتألف من 36 عضواً يتوزعون على الشكل التالي: 8 أعضاء من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، 8 من المستقلّين، 7 من الفصائل المسلّحة، 5 من هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي، 4 من منصة القاهرة، 4 من منصّة موسكو. لا شكّ بأن هذه النسب قد تتغير في المستقبل مع تغيّر الخارطتين السياسية والعسكرية، وقد يتم إحداث منصّات جديدة أو إلغاء منصّات قائمة.

كثرت– كالعادة – النقاشات والتحليلات والمواقف بين السورين من هذا المؤتمر، وتوزّعت الآراء وردود الأفعال بين مؤيد ومعارض ومتحفّظ. وكان أبرز ردّ فعل قد صدر عن الدكتور نصر الحريري رئيس هيئة التفاوض ذاتها، حيث صرّح من خلال مؤتمر صحفي، بأنّه ثمّة اعتراضات كثيرة على عقد هذا المؤتمر بهذا التوقيت وبهذه الآليات. كما حذّر من خطر شقّ المعارضة السوريّة " شاقولياً " حسب تعبيره، وأبدى استعداده لزيارة المملكة العربية السعودية، بعد أن جدّد ثقته بقيادتها الحكيمة وقدرتها على معالجة الآثار الضارّة المترتبة على هذا المؤتمر.

ثمّة من يعتقد أنّ هذا الاجتماع أمر طبيعي وناتج عن المسار الاعتيادي الذي تسير فيه هيئة التفاوض، ويعتبر هؤلاء أنّ وجود مرجعيّة ثورية سورية لاختيار ممثلين مستقلين لهيئة التفاوض أمر ضروري ولازم، ويدلّلون على رأيهم هذا بالاستجابة لمتطلّبات واقعية قد تحدث في المستقبل مثل انسحاب أحد الأعضاء أو وفاته أو إقالته وغيرها من المبررات المنطقية. كما يؤكدون على أنّ هذا الاستحقاق كان لازم الإنجاز منذ تشكيل هيئة التفاوض أو على الأقل بعد السنة الأولى على تشكيلها، لكنه لم يجرِ العمل على إنجازه بسبب تقصير قيادة هيئة التفاوض ذاتها.

فريق آخر لا يرى في الأمر سوى مجرّد مناكفة للأتراك من قبل السعوديين، وهم بذلك يعتبرون هيئة التفاوض وغيرها من مكونات المعارضة السورية مجرّد واجهات لتمثيل مصالح الدول الداعمة لا أكثر، وبالتالي فإنّ انعقاد هذا المؤتمر سيكون له ما بعده من حيث التضييق على خيارات الأتراك وتقليل أوراقهم التي يمتلكونها في الساحة السورية، كما سيكون من شأنه زيادة الأوراق السياسية السعودية لمواجهة التدخّل التركي الفعلي عسكريّاً وأمنيّاً وحتى إدارياً في الشمال السوري.

يرى فريق ثالث أنّه لا يوجد في الساحة السوريّة من يمكن أن نُطلق عليه صفة المستقل

يرى فريق ثالث أنّه لا يوجد في الساحة السوريّة من يمكن أن نُطلق عليه صفة المستقل، وهؤلاء يعتقدون بأنّ الثوري من غير المقيمين في سوريا منحازٌ أو مقرّب على الأقل أو غير قادر على أن يكون حيادياً بالمطلق عن التأثّر بسياسات أو مصالح الدولة التي يقيم فيها. فلو أخذنا عيّنات من المعارضين المقيمين في أيٍ من مصر أو السعودية أو تركيا أو الأردن... فلن يكون أيّ منهم قادراً على تجاهل متطلّبات إقامته واستمرار تجديدها في أيّ من هذه الدول، وبالتالي عليه أن يراعي في سلوكه وتصرفاته وتصريحاته مصالح هذه الدول ومواقفها العلنيّة وسياساتها العامة تجاه القضيّة السورية، وبتحديد أكثر دقّة متطلّبات أجهزة الأمن فيها.

ثمّة فريق رابع لا يمكن إرضاؤه، وأفراده غالباً ما يتصدّرون وسائل التواصل الاجتماعي ولا يتركون شاردة أو واردة تمرّ دون أن يُبدوا رأيهم فيها. المشكلة ليست في إبداء الآراء، فهذه تُصنّف في باب الحريّات العامّة التي قامت الثورة أساساً من أجل تحقيقها، الطامّة الكبرى تكمن في عشوائيّة – إن صحّ التعبير – هذه الآراء. لا يمكن للمتابع إلّا أن يلاحظ سيادة الفكر الإقصائي التخويني من جهة مقابل الفكر التبريري الانتهازي من جهة ثانية في مجمل هذه الآراء. قلّما تقع عين الناظر أو تلتقط أذن المستمع رأياً أو تحليلاً ينبع من دراسات أكاديميّة بحثيّة أو على الأقل من إحصاءات وأرقام ومعطيات أو من أدلّة ثابتة. كلّ ما هنالك مجرّد فيض من المشاعر والأحاسيس والتخمينات والافتراضات التي تصل بأصحابها أحياناً للتعريض الشخصي بالمشاركين بالشأن العام السوري وبأسرهم وأقاربهم وأحياناً مناطقهم أو انتماءاتهم القومية أو الدينية أو المذهبية.

في الغالب الأعمّ يجد المرء نفسه أمام حالة من التفهّم لهذه السلوكيات والمواقف، فحصاد المؤسسات المحسوبة على الثورة كان هزيلاً لدرجة لا تحتاج إلى برهان. على الأصعدة كافّة عسكرية ومدنية كان التردّي سيد الموقف، ولعلّ الجانب السياسي هو أبرز مثال على ذلك. هذا يعني ببساطة وقوعنا في حلقات مُفرغة ما زلنا ندور بها، وأجسام معارضتنا السياسيّة "كالمُنبتّ لا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت". لكن ما لا يمكن قبوله حتى الآن هو الاستمرار بنفس النهج السابق من التخبّط وفقدان البوصلة.

لم تفتقد الثورة السورية للداعمين، بل لعلّ كثرتهم أثّرت بشكل سلبي على مسارها ومنعرجاتها. ما افتقدته الثورة السوريّة على الدوام وبكل صراحة ووضوح، القيادة الوطنية الواعية المدركة المحنّكة الصلبة. لا شكّ بأنّ أغلب الثورات في التاريخ وحركات التحرر الوطني في العصر الحديث قد اعتمدت على وجود حلفاء وداعمين من الخارج، لكن يبقى المعيار مدى صلابة ممثليها للحفاظ على المصالح الوطنية من جهة أولى، ومرونتهم للحفاظ على استمرار الدعم مع تلبية حاجات الحلفاء بالحد الأدنى الذي لا يقطع حبل الود ولا يمنع اتفاق المصالح بالدرجة الثانية.

بافتقادها القيادة هذه، افتقدت أيضاً المعايير التي لا بدّ منها لقياس مجمل أهدافها وآليات عملها وتقييم سلوكيات مؤسساتها وأفرادها. هكذا بقيت الثورة عارية في مهبّ الريح، تارة تأخذها شمالاً وتارة أخرى يميناً. من هنا جاءت قناعات جمهور الثورة بعدم الجدوى، ومن هنا افتقد مناصروها ثقتهم بكلّ ما يجري، وهكذا تراكمت السلبيّات مولّدة أجواءً مشحونة بالطاقات السلبيّة المعطّلة لأي حراك أو تقدّم. ورغم التضحيات الكبيرة التي قدّمها كثيرون من أعضاء المعارضة السورية، فإنّ ذلك لم يشفع لهم في مقارنتهم مع بعضٍ آخر ممن تسلّق وحصّل المنافع على حساب معاناة الناس وتضحياتهم.

يبدو أننا نحتاج، أو كان يجدُر بنا العمل على تطبيق أولويات هرم ماسلو في ثورتنا. وبغضّ النظر عن صحّة هذه النظرية وواقعيّة تدرّج الحاجات الواردة فيها، فإننا لو استطعنا منذ البداية أن نوفّر الأرضيّة الصلبة أو القواعد الأساسيّة لعمل مؤسسات الثورة، ولو استطعنا أن نبني شبكة علاقات آمنة بين السوريّن أنفسهم، ولو استطعنا أن نمدّ أيدينا للأصدقاء في العالم الخارجي الذي تعرّفنا عليه متأخرين جداً، لكان بإمكاننا أن نصل إلى مرحلة الثقة بالنفس والاحترام المتبادل مع الأصدقاء والمهابة من الأعداء، ولكنّا وصلنا إلى مرحلة إدراك الذات والإبداع، وبالتالي إلى نجاح الثورة في تحقيق أهدافها وبناء دولتنا ومجتمعنا المنشودين.

لكن هذه هي الحياة، أو كما يقول الفرنسيّون c'est la vie ، ولا يمكن أن تعطينا كلّ ما نرغب دون جهد مبذول، فلا يوجد أبداً شرفٌ رفيع دون طموحٍ عظيم. سيكون علينا أن نبذل الكثير من الجهود للوصول إلى التغيير المنشود، وأول الجهد هو قبول الآخرين واحترام شخوصهم وأعمالهم، ومن ثمّ البناء على الجيّد منها ومراكمة الخبرات والتجارب لا بعثرتها.