على خلفية دوكومنتا.. صراع بين معاداة السامية وحرية التعبير

2022.09.07 | 05:49 دمشق

1
+A
حجم الخط
-A

طغى مؤخراً نقاش فريد من نوعه على الساحة الفنية في ألمانيا، إذ كانت المرة الأولى التي تنشغل فيها الأوساط الفنية بمثل هذا الجدل على خلفية فعاليات أحد أشهر المعارض الفنية في البلاد.

يعد دوكومنتا أو "معرض المئة عام" مثلما يسمونه أحد أهم وأشهر المعارض للفن المعاصر، ويقام مرة كل خمس سنوات وتتولى الإشراف عليه للمرة الأولى منذ 1955 مجموعة من الفنانين، تحت اسم مجموعة "روانغروبا" وهو اسم لمجموعة الفنانين تأسست في جاكرتا في إندونيسيا قبل 22 عاماً لتمثل الجنوب العالمي.

للمرة الأولى أيضاً اتهم المعرض في دورته الخامسة عشرة التي بدأت منذ 18 حزيران يونيو 2022 بمعاداته للسامية، وهو أمر شديد الخطورة في ألمانيا وتحرص الحكومة على تجنبه ورفضه وقد يؤدي إلى إغلاق المعرض وإلغائه، ما أدى إلى جدل جديد حول حرية الفن والتعبير بين أوساط الفنانين الأمر الذي كان بديهياً وغير قابل للنقاش فيما سبق.

العمل الذي أجج الأزمة وسبب هذه الاتهامات كان لوحة عملاقة عنوانها "عدالة الشعب People's Justice" يظهر فيها جندي يرتدي وشاحاً عليه نجمة داوود السداسية وخوذة عليها عبارة "الموساد"، ويختبئ خلفه شخصية يهودية مجدولة السوالف، ذو أنف معقوف وأسنان ذئب وفي فمه سيجار مرتدياً قبعة مطبوع عليها رمز النازية SS.

قوبل العمل باستنكار شديد وأثار غضباً عارماً لدى الحكومة والمجلس المركزي لليهود في ألمانيا ما دعا إلى إصداره بياناً انتقد فيه المعرض بشدة، جاء فيه إن: "معاداة الفنانين للسامية هو عدم الشعور بالمسؤولية من منظمي المعرض، وقد أكدت إدارة المعرض أنه لن تكون هناك معاداة للسامية، لكن من الواضح أنها قد فشلت".

الجدير بالذكر في هذا الصدد أن مجموعة الفنانين المشرفين على المعرض "روان غروبا" يؤمنون بالمشاركة ويولون عناية خاصة للصداقة والتضامن ويعني لهم كثيراً وجود روح الجماعة في أي عمل، فقد وجهوا الدعوة إلى مجموعات أخرى، سُمِحَ لها بتكليف فنانين آخرين من أجل مشاركتها في المعرض أو تنظيم فعالياتها فيه.

بهذه المبررات قدمت المجموعة اعتذارها لأنها لم تكن مبصرة بشكل شامل للأمور التنظيمية، ذلك أن هذا التشارك الفني الاجتماعي الاقتصادي تطلق عليه مجموعة روانغروبا "لومبونغ" وهو ما يعني بالترجمة "بيدر الرز المشترك". في إندونيسيا يُصار في مثل هذه البيادر تخزين الفائض من محصول الرز لصالح المجموعة لتتوزع بين أفرادها فيما بعد.

أزيلت اللوحة محل الانتقاد والجدل على الفور لكن ذلك لم يكن كافياً ولم يحمِ المعرض ومنظميه من الانتقاد اللاذع والهجوم الرسمي من منظمات أو جهات مختلفة وحتى على الصعيد الشعبي، حتى أن الأمر تطور إلى المطالبة بإقالة مديرة المعرض بسبب ما أسموه وصمة عار سيعاني منها المعرض لسنوات كثيرة قادمة لما سببه من فضائح في دورته الحالية على المستويين العام والخاص، كما لم تكن تلك المرة الأولى التي تلغي فيها ألمانيا حدثاً فنياً بحجة معاداته للسامية وتتبعه بسيل من الاعتذارات التي تثبت حسن نيتها ودعمها لإسرائيل على حساب القضايا الأخرى، فقد سبق أن ألغت حفلات فنية لمغنين فلسطينيين بسبب أغانٍ وطنية تنتقد إسرائيل.

من الواضح أن تلك الحادثة قد ضُخّمت إلى حد كبير وبدأت تأخذ حجماً أكثر مما يجب، بما يوحي أنها محاولة لكمّ الأفواه والتعتيم على حرية الرأي، ومحاولة فرض قيود معينة على الإبداع وهو أمر لا يمكن القبول به فنياً من جهة، أما من جهة أخرى فإن ما يمكن الوقوف عنده عدم وجود مثل هذه الأصوات تتحدث أو تنتقد حين تكون الصور مسيئة للديانات الأخرى.

هنالك فرق واضح بين معاداة الدين ومعاداة الوجود العسكري والاستيطاني المنظم في الأراضي الفلسطينية، والقول بأنه لا يمكن انتقاد الحالة الاستيطانية ودعم القضية فنياً لإيجاد حل عادل، لا يمكن أن يكون معاداة للسامية وإلا فلن يكون ذلك سوى ادعاء ممنهج للمظلومية هدفه قطع الطريق أمام حالة الدعم للفلسطينيين حتى لا تشكل في الأوساط حالة دعم شاملة.

لطالما درجت الأوساط في أوروبا على الدفاع عن حرية التعبير في الفنون والآداب، حيث لم يخلُ رد الفعل الشعبي والرسمي من الغضب تجاه المسلمين الذين رفضوا نشر صورة مسيئة للدين الإسلامي مبررين ذلك بأن انتقاد الفنون يضع الحريات التي ناضلوا لنيلها في خطر، وأن أي مهادنة أو تنازل بذلك الخصوص قد يؤثر على القيم المجتمعية الأوروبية، فقد سبق ووعد "ماكرون" في حادثة المدرس الفرنسي الشهيرة أو الأحداث السابقة المشابهة التي أحدثت استياء دولياً ومحلياً، باستمرار نهج حرية التعبير وعدم القبول بالتفاوض حولها، وقوبل رد فعل الأوساط المسلمة بغضب واستنكار حادين بدعوى الخوف على قيم ومبادئ الحرية في قيم المجتمع.

أما فيما يخص "دوكومنتا" فقد قوبل الموضوع بشكل مختلف على الرغم من أن العمل لم يسئ إلى الدين، بينما انتقد حالة الاستيطان وإن دل ذلك على شيء فإنه يدل على مغازلة الاحتلال ومحاولة إثبات حسن نية بتبريرات متلاحقة لعدم إساءة الظن بأن أحداً قد يتجرأ على جرح مشاعرهم، ولا يمكن القول إلا بأن ذلك يعد ازدواجية في المعايير قد تعمل على نشر الكراهية بين المتدينين إسلامياً وبين المجتمع الأوروبي بعدم المعاملة بالمثل للأعمال التي تمس مشاعرهم الدينية. 

لا يمكن أن يكون هناك إبداع حيث لا حرية ولهذا فإن وضع هذا المبدأ على المحك اليوم، قد ينذر بفجوة تزداد عمقاً بين الواقع والتطبيق وبين الأوساط الفنية والرسمية في الغرب وألمانيا على وجه الخصوص، لكن ذلك لا ينطبق على أعمال من دون غيرها ولا على قضايا محددة وإلا فإن ذلك قد يزيد عمق الهوة المجتمعية بين الأطراف.

تبدو الحدود بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية واهية للغاية ويُساء تقديرها وتمييزها في غالب الأحيان، فيما تسعى أوروبا إلى درء التهمة عنها بذلك على الدوام، ولكن من غير المنصف أن يكون الحديث عن إسرائيل على أنها كيان استيطاني يعد دائماً عرضة للتكميم والمحاربة بدعوى عدم جرح مشاعر المستوطنين، وكأن تلك البلاد بذلك ما زالت تدفع فاتورة المحرقة بشكل دائم لكنها تتسبب في إشعال محرقة على الطرف الآخر بحق الفلسطينيين.