علموا أبناءكم

2021.01.13 | 00:08 دمشق

ayyamsyria.net-2019-09-09_11-38-51_966052.jpg
+A
حجم الخط
-A

تظهر الإحصائيات الحديثة قبيل الثورة السورية تراجعاً كبيراً في نسبة انتشار الأمية حتى إن كثيراً من المحافظات السورية سجلت الرقم صفر بهذا الخصوص.

جاءت ظروف الحرب والنزوح بعد ذلك لتغير المؤشر وتزداد معها حالات التسرب من المدارس وخروج عدد كبير من الأطفال خارج المؤسسات التعليمية.

غير أن الأمية تختلف بمفهومها وتعريفها بين زمان وآخر وشروط موضوعية وأخرى، فلم يعد اجتياز مرحلة التعليم الأساسي أو تعلم القراءة والكتابة كافيين لوصف الإنسان بالمتعلم، علاوة على أن كثيراً من المفاهيم باتت محل نقاش في العقد الأخير، فهل يكفي حصول الشخص على شهادة جامعية ليكون متعلماً طالما أن نتائج العلم لم تنعكس على سلوكه وشخصيته وتعاملاته مع المحيط.

ربما كان التعليم ضرورياً لتهذيب النفس لكنه ليس أساساً لصنع الإنسان، وفي حالة فوضى القيم الذي تعيشه مجتمعاتنا التي تجتاز مخاضاً عسيراً، فقد تبين في كثير من الأحيان عدم اقتران التعليم بالإنسانية أو الوعي، ذلك فإن كلاً منهم مفهوم مستقل بحد ذاته.

ما الذي يطمح إليه الأهل من تعليم أبنائهم؟ هل يودون تنمية أدمغتهم وتوسيع آفاقهم وتفردهم في تحقيق شخصياتهم وآرائهم، أم أنهم سيكتفون بحصولهم على فرص عمل جيدة تؤمن لهم دخلاً جيدا وحياة مقبولة

ربما لا يخفى على أحد أن المؤسسات التعليمية على اختلاف اختصاصاتها ومراحلها في دولنا مهلهلة بشكل واضح، شأنها في ذلك شأن بقية المؤسسات العاملة إذ إنها تفتقد إلى معايير موضوعية في الهيكلة واختيار المدرسين ودراسة المناهج المعتمدة وتأهيل الطلبة وتخريجهم، إضافة إلى عوامل متعلقة بالطالب بحد ذاته مثل عدم وضوح هويته أو عدم إدراكه لنفسه وإيلائه الأهمية لتحصيل الدرجات وإنهاء السنوات الدراسية في أحسن الأحوال.

وفي حال ذهبنا في طريق أكثر وعورة فقد يتيح لنا ذلك أن نسأل سؤالاً شائكاً كي نحدد إحداثياتنا بشكل أدق، ما الذي يطمح إليه الأهل من تعليم أبنائهم؟ هل يودون تنمية أدمغتهم وتوسيع آفاقهم وتفردهم في تحقيق شخصياتهم وآرائهم، أم أنهم سيكتفون بحصولهم على فرص عمل جيدة تؤمن لهم دخلاً جيدا وحياة مقبولة.

غالباً تفضل الأسر تنشئة أبنائها في وسط آمن واضح المعالم يرسمون مساره بشكل محدد سلفاً، بحيث يحصل فيه الابن تحصيلاً علمياً جيداً لضمان حياته العملية والاجتماعية والمادية بغض النظر عن طموحاته ورغباته، وليس في هذا إدانة للأسرة ومخططاتها بشكل واضح إذ أن ذلك أمر طبيعي وسط عالم يحكمه الجنون، لكنه في المقابل لا يمكن أن يصنع من أي ابن كائنا متفردا ومختلفا طالما أننا نحكم عليه بأن يكون فرداً من قطيع كبير غير قادر على تغيير العالم، بل إنه غير معني بالمحاولة لتحقيق ذلك أيضاً.

تحاول الحكومات في الفترة الأخيرة بسبب الجائحة الصحية المحيطة بالعالم تطبيق طرق جديدة للتعليم عن بعد، ما يجعلنا أيضاً أمام انعطاف تاريخي جديد يحتم علينا تأقلماً مختلفاً وخططاً نوعية جديدة من أجل أن يؤتي التعليم أكله، لكن ذلك يصطدم بمعوقات عديدة مثل انعدام اتقان كثير من الأهل أو الكادر التدريسي التعامل مع الوسائل التعليمية الجديدة _وهذا شكل مختلف من أشكال الأمية_، فنقع من جديد في فخ التلقين والحفظ من أجل تجاوز الامتحانات والانتقال إلى الصفوف التالية من دون أن يترك التعليم أثره علينا، وذلك على خلاف ما تعتمده أنظمة التعليم الأكثر تقدما في العالم القائم على التفاعل وعلى تعليم الأطفال ذوي الأعمار الصغيرة عن طريق اللعب أو القصص.

لم يقف رأس المال المستثمر في قطاع التعليم في الخلف كعادته في هذه الأزمة فقد حاول أن ينضم إلى السباق عن طريق استثمار الأزمة وتحويلها إلى فرصة ليخلقوا منصات تعليمية افتراضية، مبقين على رسوم الالتحاق الباهظة وغير مقدمين سوى صك قانوني يفيد بانتقال التلميذ إلى الصف التالي من دون التأكد من اجتيازه الصف بنجاح أو لا، وهذا ما يبحث عنه أولياء الأمور في الغالب.

تعتمد أسس التعليم أو التربية في المؤسسات التعليمية أو في مؤسسات الأسرة في أحيان كثيرة، الحفظ والتلقين بشكل أساسي

هذا وفي ظل عالم تسيطر عليه لوثة التكنولوجيا ونصبح فيه حبيسي أجهزة وشاشات افتراضية ومدجنين في غرف ذات أشكال هندسية فما الذي يمكن أن تتيحه تلك الظروف لتأمين نشأة سوية أو طبيعية لطفل في طور التعلم.

تعتمد أسس التعليم أو التربية في المؤسسات التعليمية أو في مؤسسات الأسرة في أحيان كثيرة، الحفظ والتلقين بشكل أساسي، بحيث يكون أساساً للتعلم مع تحييد عامل التفكير وبناء الشخصية لأنها غير ضرورية وفقا لمعاييرهم، ففي الأحوال كلها سينضم التلميذ العربي بعد تخرجه ونيله الشهادة إلى قطيع من العاطلين عن العمل أو العاملين بطريقة العبيد الذين عليهم أن يعملوا دون أن يفكروا بتحسين بيئة العمل، التي جهد أرباب العمل على صناعتها بما يتناسب ورغبتهم بالربح والتوسع.

إن الغاية التي نرجوها في نجاح أبنائنا مختلفة عن مفهوم النجاح الحقيقي والمقدرة على مواجهة العالم وحجز حيز حقيقي لنا للمساهمة في بنائه.

كما أن تجارب بعض الدول في مسألة التعليم تبين لنا أن الإنسان يولد بفطرته محباً للتعلم، إذ إنها تتبع نظام التعليم الاختياري بحيث يستطيع الطالب أن يختار الدرس الذي سيدخل إليه بإرادته الحرة بما يتناسب مع مجال اهتمامه، فيما يحاسبون في نظمنا التعليمية بمبدأ الحضور والغياب فيتعذر التلميذ بالحجج كلها كي يتهرب من المدرسة لأسباب عديدة منها سوء المعاملة في المدرسة أو عدم أهلية المدرسين أو شعوره بالملل بسبب وسائل التعليم التقليدية.

إن مسألة تعلمنا ما هو موجود في المناهج المدرسية وإتقاننا لطرق وأساليب العمل وفق العرف السائد، أو حفظنا لطرق متوارثة للتعامل مع الأشياء لا يعني على الإطلاق أن الإنسان منا يعد متعلماً أو أنه مواكب للحركة العلمية المستمرة، فإن آليتي الحفظ والتطبيق تمكن أي كائن حيّ من إنجاز أي عمل بشكل أتوماتيكي وتأمين قوت اليوم من أجل البقاء حيّاً، لكنها لا تصنع جيلاً فاعلاً بل تنشئ جيلاً مروّضاً.