علاقة النظام الرسمي العربي بإسرائيل.. من السرية إلى الإشهار

2020.08.23 | 00:00 دمشق

amarat1.jpg
+A
حجم الخط
-A

في 19 من نوفمبر من عام 1977م، قام الرئيس المصري في ذلك الوقت "محمد أنور السادات" بزيارته المشهورة إلى فلسطين المحتلة، وتسببت تلك الزيارة بصدمة كبيرة للجميع، حكومات وشعوبا بما في ذلك حكومة "إسرائيل" وشعبها، يومها قادت الجزائر ممثلة برئيسها "هواري بو مدين" حملة ضد السادات وزيارته، فقام بزيارة عدة دول عربية وتم الإعلان عن تشكيل ما عرف حينها ب "جبهة الصمود والتصدي"، ثم قرر العرب تعليق عضوية مصر في الجامعة العربية، ونقل مقرها من القاهرة إلى تونس العاصمة، لكن كل ذلك الضجيج لم ينتج شيئاً.

يمكننا بثقة كبيرة القول إن "إسرائيل" ما كانت لتكون كما هو عليه الحال الآن، لولا أن النظام الرسمي العربي كان بمجمله قائماً على استبداد عسكري أو ملكي، يستبعد الشعوب وقواها وتعبيراتها عن صنع القرار، وبنفس الدرجة من الوثوق يمكننا القول أيضاً إن النظام العربي الرسمي ما كان ليكون على هذه الدرجة من الاستبداد وتغييب الشعوب لولا وجود "إسرائيل"، باختصار لقد وعت "إسرائيل" ومعها النظام العربي أن وجودهما معا ضرورة لكليهما، وإن انهيار أي منهما سيشكل انهيار الآخر، أو التأسيس لانهياره.

اليوم يتكرر المشهد لكن بتطورات كثيرة بالغة الأهمية، فما كان قائماً عندما أقدم رئيس أكبر دولة عربية على التطبيع مع "إسرائيل" لم يعد موجوداً، وما سوف يكون بمواجهة ما قامت به الإمارات مؤخراً، لن يكون أبداً كما واجهه السادات يومها، ثمة تغيرات كثيرة وعميقة حدثت ليس في البلدان العربية وانكشاف حقيقة ارتباط النظام العربي وعلاقته ب "إسرائيل" وحسب، بل بوصول الشعوب العربية إلى مرحلة من ضياع الهوية، ومن ضياع الهدف.

يجب أن نعترف أن الحقيقة الكبرى فيما وصلنا إليه كشعوب عربية، إنّما كان جذره الأهم يكمن في بنية النظام العربي، وفيما كرّسه هذا النظام من عطب داخل بنية المجتمعات العربية ونخبها السياسية والثقافية والاقتصادية، وما أنتجه من طغيان الديني والعسكري على السياسي.

يجب أن نعترف أن الحقيقة الكبرى فيما وصلنا إليه كشعوب عربية، إنّما كان جذره الأهم يكمن في بنية النظام العربي، وفيما كرّسه هذا النظام من عطب داخل بنية المجتمعات العربية

لا تكمن مشكلتنا في وجود "إسرائيل" كآخر وجود استعماري مباشر، واحتلالها لأرض فلسطين وتشريدها للشعب الفلسطيني وحسب، بل تكمن في الركيزة الأساس لبناء هذا الوجود واستمراريته، والتي نظّر لها وكرّسها مخططو استراتيجية هذا الوجود، بأنه لا يمكن لـ"إسرائيل" أن تكون إلا عبر تفوقها، هذا التفوق الذي يتطلب تدمير إمكانات شعوب الدول المحيطة، وتخلفها، ومنعها من امتلاك أدوات تطورها وتقرير مصيرها، من هنا عملت "إسرائيل" ومن يقف خلفها على استنقاع هذه المنطقة طيلة ما يقارب القرن، داخل صيغ سياسية لا تتيح لهذه الشعوب أن تؤسس لمستقبل أفضل.

اليوم وبعد أن أعلن "ترامب" في الثالث عشر من الشهر الجاري عن اتفاق إسرائيلي أميركي إماراتي بإقامة علاقات رسمية، فإن أسئلة كثيرة تطرح نفسها وبقوة على مجمل البنية العربية، وعلى فهم هويتها ومستقبلها، وعلى الصيغة السياسية التي يصار لفرضها على هذه المنطقة، ليس لأن الإمارات دولة محورية ولها وزنها الجيوسياسي البالغ التأثير، ولا لأن الحدث كان مفاجئاً وصادماً، بل باختصار لأنه فعل يؤسس لمرحلة جديدة سِمتها الأهم هو تكريس شرعية الوجود الإسرائيلي، مع ما يعنيه هذا من نسف كامل لحقوق شرعية مقرّة ومعترف بها عالميا للشعب الفلسطيني.

اليوم، وبعد أن انكشفت هشاشة وتفاهة وتبعية النظام الرسمي العربي كله، وبعد أن دُفعت المنطقة لمخاض رُتب له، بحيث يصعب على هذه المجتمعات أن تقرر مصيرها، وبعد أن برزت ثلاث دول إقليمية أساسية باحثة عن مصالحها ضمن مشروع هيمنة وتقاسم جديد في المنطقة، هي (إسرائيل وتركيا وإيران)، فإن الكيانات العربية المتهالكة ستهرع للاصطفاف ضمن الترتيب الجديد، وكعادتها ستواصل نهجها القديم بتهميش شعوبها ومحاصرتها، والالتحاق بأسرع ما يمكن ضمن المحاور المتشكلة إقليمياً، والمرتبطة بالمحاور الأقوى، أي بالدول الكبرى الفاعلة.

من يتتبع مسار الثورة الفلسطينية منذ الإعلان عن بدء الكفاح المسلح للشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي في مطلع عام 1965م، وصولاً إلى السلطة الفلسطينية الحالية المتمثلة ب "محمود عباس"، يمكنه أن يفهم جيداً كيف حمى النظام الرسمي العربي، والساسة العرب "إسرائيل"، عبر تدجين هذه الثورة وإيصالها إلى كل البؤس والهوان والتشرذم الذي تعيشه اليوم، ويمكنه أيضاً أن يعرف لماذا تضافرت جهود المجتمع الدولي مع النظام الرسمي العربي لوأد الربيع العربي، ومنع تكرّيس انتقال حقيقي من علاقة الاستبداد إلى علاقة الديمقراطية.

ليست المشكلة فيما أعلنته الإمارات وسمّته "قراراً تاريخياً" وحسب، إنّما المشكلة الأهم تكمن في تداعيات هذا القرار واستثماره في الصراع المحتدم لرسم ملامح منطقة الشرق الأوسط 

ليست المشكلة فيما أعلنته الإمارات وسمّته "قراراً تاريخياً" وحسب - رغم أنها لم تقرر شيئاً، لا بل امتثلت حتى بتوقيت إعلان الاتفاق الذي اختير لمساعدة "ترامب" و"نتنياهو" في معركتهما الانتخابية القادمة – إنّما المشكلة الأهم تكمن في تداعيات هذا القرار واستثماره في الصراع المحتدم لرسم ملامح منطقة الشرق الأوسط في المرحلة القادمة، والذي يرتكز أساسا على تقاسم هذه المنطقة ورسم معادلات نفوذ جديدة تسلب العرب حقوقهم وثرواتهم.

كل ما يحدث الآن هو نتيجة حتمية لتغييب الشعوب عن قرار مصيرها، واستفراد الطغاة المرتهنين للخارج بالقرار، فهل ستتمكن الشعوب من تكريس صيغة جديدة لعلاقتها بمصيرها ومستقبلها؟ وهل بالإمكان التأسيس لفعل يتجاوز ما استطاع المصريون والأردنيون فعله عبر مقاطعتهم ورفضهم للتطبيع الذي فرضته عليهم حكوماتهم؟ والذي جعل من كل اتفاقات التطبيع مجرد اتفاق يحدد علاقة الجهة الحاكمة العربية بـ "إسرائيل"، إلى فعل جديد يضع حداً لتحكم الطغاة بمصيرهم ومصير أوطانهم ومستقبلهم، أم أن الشرط اختلف الآن؟ وما تعمدت الأنظمة العربية من فعله بشعوبها، من إفقار وإذلال، وتهميش وتجويع، سوف يدفع هذه الشعوب للقبول بما كانت تعتبره سابقاً خيانة لهويتها؟

إنه السؤال الذي يلح على المثقفين العرب، وعلى ساستهم، وأحزابهم، وقواهم جميعا أن يجيبوا عليه.