عقد من مقابلات الأسد: تعالوا نكذب

2021.04.06 | 07:00 دمشق

unnamed_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

أن تتيح منصة إعلامية للديكتاتور منبراً لكي يكذب، فهذا سلوك يشوبه عيب أخلاقي بالـتأكيد. لكنه للأسف، في حالة بشار الأسد، هذا ما كان يحصل على مدار عقد كامل. لم تنقطع كبرى الشبكات الإعلامية عن طلب مقابلة بشار الأسد، وفي العديد من الحالات تلبية دعوته لإجراء المقابلات معه. ولكن للمفارقة، في حالة الأسد فإن معظم الرسائل التي حاول توجيهها للعالم تم تلقيها بطريقة سلبية، وغالباً ما اتُهم بالكذب. في أكثر من حالة علق المذيعون الذين أجروا المقابلات معه، ووصفوه بأن يكذب دون حياء أو شعور بالخجل. ولكن هذا لم يكن ليثني الأسد عن طلب أو تلبية مزيد من المقابلات، فهو لم يكن يهتم إن صدقه جمهور تلك المحطات أم لا، وكل ما كان يعنيه من تلك المقابلات، هو إيصال رسالة للسوريين بأنه ما زال مقبولاً لدى دول العالم، وإلا لما كانوا جاؤوا إليه للاستماع إلى روايته للأحداث، بل وفي كثير من الحالات، للإصغاء إلى رأيه في صراعات المنطقة، وحتى بالسياسات الدولية، كأي رئيس لدولة مستقرة ولا يجري فيها كل ما جرى في سوريا.

لا يعتبر علماء النفس كل من يكذب كذاباً. ولكن عندما يتطور هذا الفعل، ويلازم الشخص فعندئذ يكون هذا الشخص مصابا بالكذب المرضي

كنت تلمست، ككثير من السوريين، قبل الثورة أن بشار يكذب تكراراً، ولكن لم أكن قد علمت بعد أن الكذب جزء أصيل من شخصيته المريضة، بعيداً حتى عن موقعه والكذب الاضطراري والمألوف للسياسيين. ولذا وجدت أن مقابلته نهاية عام 2011 مع باربرا وولترز مذيعة قناة "اي بي سي" تشكل حالة نموذجية جديرة بالدرس، بل وتغني عن متابعة باقي مقابلاته خلال العقد الأخير. تسأله عن رسام الكاريكاتير الذي تم تكسير أصابعه لأنه انتقده، فيجيب بسؤال بأن لديه عديدا ينتقدونه فهل يعقل أن يقتلهم جميعاً؟ تنتقل لتعذيب طفل وصلت جثته مشوهة إلى ذويه، فيخبر المذيعة بأنه قابل والد الطفل حمزة الخطيب، ولم يكن هناك تعذيب، وقد تشكلت لجنة تحقيق خاصة ووجدت أنه لم يتعرض لأي تعذيب، وأن كل تلك إنما هي شائعات. ولذلك فإنه يطلب، عبر وولترز، من وسائل الإعلام تداول الحقائق وعدم الإصغاء للشائعات. تردد عليه خلاصة تقرير للأمم المتحدة استند إلى شهادة 220 سوريا تعرضوا للتعذيب والاغتصاب، فيجيب: ومن قال إن الأمم المتحدة لديها مصداقية؟ التقطت وولترز جوابه بدهشة فعادت للسؤال باستغراب: ألا تعتقد أن الأمم المتحدة ذات مصداقية؟ أجاب بدون تردد: لا. وهنا ستعتقد الإعلامية الأميركية أنها ستحشره بتذكيره أن لديه سفيرا هناك. فيجيب مقهقهاً (طبعاً لا داعي لأصف لكم ضحكته فأنتم تعرفونها): نعم إنها لعبة نلعبها، ولا يعني أن نصدقها.

ومن قال إن على الكذّاب أن يصدّق الآخرين؟ لا يعتبر علماء النفس كل من يكذب كذاباً. ولكن عندما يتطور هذا الفعل، ويلازم الشخص فعندئذ يكون هذا الشخص مصابا بالكذب المرضي، ويضيفون بأن هذا النوع من الكذب قد يقترن بعدد من الجرائم مثل الغش والنصب والسرقة (للأمانة لم يوردوا جريمة القتل من بين تلك الجرائم). ويضيف علماء النفس بأن الكذب قد يقترن ببعض المهن أو الأدوار مثل المهن الدبلوماسية والإعلامية. أولى كذبات بشار الأسد التي قرأتها شخصياً، كانت قبل موت أبيه بحوالي عامين، حين سئل في مقابلة صحفية عن إمكانية أن يخلف والده في رئاسة سوريا، فأجاب ساخراً، كمن يتحدث عن البديهيات مستغرباً جهل الآخرين، بأن من يعتقد ذلك لا يعرف أن دستور سوريا لا يتيح لمن هو دون الأربعين بتولي منصب الرئاسة. هل لاحظتم كم كانت الإجابة تنطوي على وعي بالدستور واحترام راسخ له.

تستمرئ "وولترز" السماع لكذب بشار الأسد، فتوغل أكثر وتخبره أن والده قاد هذا البلد 30 عاماً، وهو نفسه يقوده منذ أكثر من عقد

هناك ما يعرف بمتعة الكذب بهدف إفحام الخصم، ولو كان الخصم يعرف أن من يحاوره يكذب. وفي حالات الاعتقال يعرف المحقق أن المعتقل يلفق كثيرا من الروايات ويكذب، وهو إنما يفعل ذلك لإخفاء حقائق ستؤدي إلى أذى سيقع على آخرين، وقد يصل الأذى إلى كارثة اعتقالهم. لكن على من تقع الكارثة فيما لو أن بشار الأسد قال الحقيقة؟ سيفاجئكم مثلما فاجأني وأنا أكتب هذه المادة، عدد الروابط فيما لو وضعتم على محرك البحث "غوغل" عبارة: "بشار الأسد يكذب". ولن تجدوا فيها أن معارضيه فقط من يكذبونه، ولكنهم مسؤولون دوليون بينهم أهمّ حلفائه.

تستمرئ "وولترز" السماع لكذب بشار الأسد، فتوغل أكثر وتخبره أن والده قاد هذا البلد 30 عاماً، وهو نفسه يقوده منذ أكثر من عقد. فماذا لو كان الربيع العربي قد جاء لينهي قاعدة حكم العائلة الواحدة؟ ومع ذهول المذيعة لصفاقة الكذبة، سيجيب الأسد أنه ضد قاعدة حكم العائلة الواحدة، ويسهب بعدها بأن والده لم يتحدث معه بالسياسة أبداً، وهو لم يعمل أبداً على تأهيله لمنصب الرئاسة. ثم يذهب أبعد، فيؤكد بأن والده لم يكن أبداً ينوي أن يعطي منصبه لأبنائه، وهو لم يتحدث معهم حول ذلك. تعيد وولترز صياغة سؤالها، علّها أخطأت في الصياغة الأولى، وتسأله: إذا كيف أصبح الابن رئيساً؟ وهنا تأتي الإجابة المدهشة من الأسد (معجزة العرب الحديثة): "بعد وفاة الرئيس، حاصر المتظاهرون مبنى البرلمان وطالبوا برئيس جديد، وعندها قمت بترشيح نفسي، مع أني لم أفكر بذلك مطلقاً من قبل".

طبعاً يمكنني القول دون أن أقع في فخّ المبالغة، إن المقابلة بكاملها كانت سلسلة متراصّة من الأكاذيب، من مثل أن هناك أوامر خطّية بعدم استخدام السلاح ضد المتظاهرين، وأن معظم الضحايا هم من مؤيدي الحكومة، وصولاً لتعليقه الأشهر بأنه "لا توجد حكومة في العالم تقتل شعبها، إلا إذا كان يقودها شخص مجنون". لا أعرف بماذا فكرت باربرا وولترز بعد أن أنهت تلك المقابلة، لكن ما أنا متأكد منه أنها حتماً وصلت إلى نتيجة بديهية تفيد بأن الأسد ليس مجرماً فقط بل هو مجنون وكذّاب أيضاً.

في مقابلة لبشار الأسد مع "بيل نيلي" من قناة "إن بي سي" صيف عام 2016، سيسمع الأسد من "نيلي" ما لم يقله صحفي لأي رئيس دولة في التاريخ من قبل "إنك تعلم ما تقوله النسخة الحالية للتاريخ: أنت ديكتاتور قاسٍ، إنك رجل تلوثت يداه بالدماء، وإن الدماء التي على يديك أكثر حتى من التي كانت على يدي والدك" كان ذلك بعد أن سأله: هل حدث أن بكيت على ما حدث في سوريا؟ فأجاب الأسد بالنفي. تلك الإجابة كانت الوحيدة التي تصادف للأسد أن كان صادقاً بها.

كلمات مفتاحية