عقبات التكيف الاجتماعي بين السوريين والأتراك

2020.12.04 | 23:02 دمشق

79d603b0-42ac-4d5f-b5a2-63777f8a0ccc.jpg
+A
حجم الخط
-A

في إحدى زياراتي الاعتيادية إلى منزل والدي المقيم في المدينة التركية التي لجأنا إليها منذ سنوات بسبب الحرب، رأيت على بعد عشرات الأمتار جدتي الثمانينية تجالس جاراتها التركية اللاتي يتجاوز عمرهنَّ الثمانين أيضاً، يتجاذبن أطراف الحديث؛ زاد فضولي بالتعرف إلى سر تواصلهما، فجدتي لا تعرف من اللغة التركية إلا بعض الكلمات العامية التي وفدت من تلك اللغة، والمعمّرة التركية لا تعرف من اللغة العربية إلا بعض الكلمات التي ترددها في صلواتها. أجابتني جدتي عن اتفاقهن، وهو أن تتحدث الأولى لدقائق والأخرى تبكي، ثم تبوح الثانية والأولى تنوح!

 سألت الجدة التركية، كيف تفهمين صديقتك؟ ردت بلغة تركية كانت معظم كلماتها باللغة الكردية التي لا أفهمها. إن جدتك تحدثني بروحها وعيونها وبعضٍ من إشارات يديها عن الكوارث التي حلت بكم، وعن براميل الأسد التي يلقيها عليكم، إضافة إلى اعتقال الناس وتعذيبهم. أما جدتي فبعد أن تذرف الدموع السخية على آلامها وآلام صديقتها، فقالت: لها أربع بنات وولد، البنات واحدة منهن مطلقة، والثانية عانس، أما ولدها الأربعيني فهو من ذوي الاحتياجات الخاصة (كفيف) الذي يحتاج إلى مساعدة الجميع.

بعد فترة وجيزة رحلت الجدتان إلى جوار بارئهما، وتركتا لنا نموذجاً راقياً في التواصل الروحي القائم على الحس الإنساني المشترك الذي يخلق تكيفاً اجتماعياً نحتاجه في تركيا كي نبني حياة مستقرة وآمنة تقل فيها الحوادث والصراعات التي تدمر حياتنا الاجتماعية وتحولها إلى جحيم.

ليس الخوضُ في مفهوم التكيف الاجتماعي أو غيره من المفاهيم ذات الصلة به _ من مثل الانسجام الاجتماعي أو حتى الاندماج الاجتماعي _ ترفًا فكريًا، بل يحتل مكانة الصدارة أيضًا في حقل الدراسات التي تهتم بشؤون اللاجئين، كما أنه المفهوم الأكثر تداولًا إعلاميًا في الآونة الأخيرة؛ إذ تحول إلى ضرورة اجتماعية فرضتها متغيرات الحروب القائمة حتى الآن، وما خلفتها من هجرات قسرية، أنتجت مشكلة اللاجئين التي تحولت إلى قضية نقاش عالمية؛ وذلك لما لها من أهمية كبيرة في تغيير البنى الاجتماعية التقليدية في كل الدول المضيفة للاجئين، حتى إن بعض الدول المضيفة للاجئين سعت إلى وضع سياسات، وبرامج منظمة تكسر الحواجز النفسية التي تعيق تأقلمهم وتؤهلهم مهنيًا؛ كي يكونوا مشاركين فاعلين في الحياة الاجتماعية الجديدة.

في تركيا التي شهدت أكبر عملية تهجير مجتمعي سوري إليها (حوالي 4 ملايين)، عاش السوريون بين أوساط المجتمع التركي، ودخلوا مؤسساته التربوية والصناعية والزراعية والتجارية والصحية وغيرها، تواجه عملية تكيفهم وتأقلمهم مع الوسط الاجتماعي التركي عقبات متعددة، لعل من أهمها: 

أولاً - الصورة النمطية: عاشت تركيا والعالم العربي تحت سقف الدولة العثمانية لمدة أربعة قرون، وهو ما أنتج خصوصية ثقافية وسياسية واجتماعية بين السوريين والأتراك، إلا أن هذه الخصوصية لا تنفي وجود صورة نمطية متبادلة في أغلبها سلبية، ونستطيع أن نتحدث عن صورتين نمطيتين هما:

ارتبطت الصورة النمطية الجديدة لدى جزء من المعارضة التركية بأن السوري هو الخائن لبلده

 الأولى صورة نمطية تاريخية تعود جذورها إلى ما بعد الدولة العثمانية، نتيجة لانقطاع العلاقات السياسية بعد الحرب العالمية الأولى وصولاً إلى بدايات الألفية الثالثة، تشكلت صورة نمطية سلبية متبادلة بين الطرفين العربي والتركي، حيث تقوم الصورة النمطية التركية على أن العربي كما تصوره وسائل الإعلام الغربية، التي شوهتها أفلام هيوليود: بدوي، غدار، لا يوثق به، زير نساء، غير متعلم، ديكتاتوري، خانع، وقد وقعت وسائل الإعلام التركية تحت تأثير تلك الصورة النمطية الأوروبية التي تربط العربي بالخيانة أو بالبشرة السمراء، إضافة إلى الأكل باليد دون استخدام أدوات الطعام المعاصرة، وغيرها من الصفات السلبية، وقد كرست هذه الصيغة السياسية المناهج الدراسية القديمة، والوسائل الإعلامية والأفلام، والمسلسلات العربية والتركية، كما قابلتها صورة نمطية عربية سلبية بالضرورة تربط التركي بالمحتل الغاصب أو تربطه بالتوحش والخازوق وغيرها (مسلسل أخوة التراب مثلاً).  

أما الصورة النمطية الثانية فقد تشكلت بعد لجوء السوريين إلى تركيا عام 2011م؛ إذ ارتبطت الصورة النمطية الجديدة لدى جزء من المعارضة التركية بأن السوري هو الخائن لبلده، والذي تخاذل عن الدفاع عنه، أو الهارب من واجبه الوطني في الدفاع عن بلده، أو الذي يشاركهم لقمة عيشهم، وتظهر هذه انعكاسات الصورة النمطية السلبية في وقت المشكلات التي تظهر بين الفينة والأخرى، منها حوادث مدن كهرمان مرعش وقيصري وغازي عنتاب وشانلي أورفا، كما يضاف إلى هذه الصورة النمطية السابقة شكل اجتماعي يربط السوري بالفقر والتسول، أو علاقته ببعض العادات الاجتماعية غير المناسبة مثل عدم احترام الجيران وإزعاجهم بالصوت المرتفع، وهي العادة التي أضحت مقترنة بالعائلات السورية لدى بعض الأتراك.

ثانياً - اللغة: من بديهيات أدبيات التكيف الاجتماعي أن تُعد اللغة الوسيلة الأهم في صناعة تكيف اجتماعي سليم، وعلى الرغم من أن الدول الأوروبية - الرائدة في هذا المجال – تجتهد في ربط تعلم اللغة بمسائل المساعدات والإقامات وغيرها، فإن تركيا لم تفعل مثلها؛ لأن المقولة الأساسية في استقبال السوريين في تركيا (الأنصار والمهاجرون) أو (الضيوف السوريون)، وذلك على الرغم من الجهود التي  تقدمها مؤسسات حكومية في تعليم اللغة التركية للاجئين السوريين مثل مراكز التعليم الشعبي (المراكز الثقافية) أو مؤسسات المجتمع المدني الناشطة بقوة في هذا المجال.

وعلى الرغم من كل هذه الجهود المبذولة من الطرف التركي، إضافة إلى أننا نعيش في قلب مجتمع تركي، وهو ما يوفر وسطاً لغوياً كاملاً ومتعاوناً في هذه المسألة، فإن تعلم اللغة التركية لم توضع حتى الآن على سلم أولوياتهم بوصفها العنصر الأول في عملية تحقيق تكيف اجتماعي سليم وطويل الأمد. 

ثالثاً - معرفة القوانين: يعد الجهل بالقوانين التركية للاجئين السوريين الذين يعيشون على الأراضي التركية ركناً ضرورياً في عملية التكيف الاجتماعي، سواء تلك القوانين التي تخص الحياة العامة بمختلف أشكالها، أم تلك القوانين التي تخص الأجانب، فمعرفة القوانين لا تشكل عاملاً رئيساً في تحقيق تكيف على المستوى القانوني – الحماية المؤقتة- فحسب، وإنما تمثل كذلك خطورة تعرضهم لأشكال الاستغلال المختلفة، أو التورط في قضايا يحظرها القانون التركي، وهذا ينطبق على قانون الأحوال الشخصية كما هو قضايا القوانين الجزائية وغيرها.  

يعد الإدراك العميق لطبيعة العادات والتقاليد للسوريين عنصراً رئيساً في التكيف الاجتماعي

رابعاً - الجهل بالعادات والتقاليد: لا شك أن لكل مجتمع عاداته وتقاليده الاجتماعية، من هنا يعد الإدراك العميق لطبيعة العادات والتقاليد للسوريين عنصراً رئيساً في التكيف الاجتماعي؛ إذ تلعب حساسية هذه العادات دوراً في عملية أي تكيف ناجح؛ لأن الأخير يقوم بالأصل على فكرة تقبل اختلاف هذه القيم الاجتماعية واحترامها.

لا تقع مسؤولية تذليل هذه العقبات أمام تكيف السوريين مع المجتمع التركي على المؤسسات  الحكومية المختلفة فحسب، بل هي قضية مركبة يجب أن تشترك فيها أيضاً منظمات المجتمع المدني السورية والتركية، وأن تضعها على سلم أولويات أنشطتها الاجتماعية والإعلامية والإنسانية والخدمية، كما يقع على عاتقنا نحن السوريين المقيمين (الضيوف) في تركيا عموماً مهام كبيرة، منها خلق أفضل العلاقات مع الأتراك من خلال السعي نحو تكيف اجتماعي صحيح، وطويل الأمد لمنع حصول أي مشكلات أو صدامات اجتماعية محتملة بين السوريين والأتراك، والسعي إلى تشكيل رأي عام تركي بشكل أكبر - مما عليه الآن – داعم للثورة السورية في تحقيق أهدفها في الحرية والكرامة والحياة الكريمة لكل السوريين.