عطب الذاكرة السورية وحمايتها

2021.11.22 | 05:16 دمشق

11201725145441285.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ عام تقريباً، استنفر كثير من السوريين ما سُمّي فيديو "إعلان الجنين" على "برج خليفة"؛ وأقلقهم بشدة منذ عامين إسقاط ستة آلاف فيديو توثّق إجرام نظام الاستبداد عن الشبكة العنكبوتية /الإنترنت/ (ربما بقصدية). وكجزء من حملة إعادة تكرير منظومة الإجرام في سوريا، يتم العمل على خطين متوازيين إعلامياً - وخاصة عبر وسائط التواصل الاجتماعي، باعتبارها تجاوزت بتأثيرها الإعلام التقليدي- واحداً يسعى لإزاحة ما تم توثيقه حول جرائم "النظام"، وتقديمه كأمر واقع. والآخر تشويه كل مَن يعارضه، وزرع اليأس والإحباط بهم؛ بحكم أن الأمور حُسِمَت لصالحه، وكأن شيئاً لم يكن؛ وها هو "التعافي المبكر" على الطريق. ونظراً لتشابك وتناقض القوى والجيوش على الأرض السورية فإن أياً من هذه الخطوط لن يفلح في تحقيق أهدافه لأسباب لا حصر لها.

قد يكون طعن ذاكرة السوريين بفيديو الجنين فعلاً بريئاً دون أبعاد، ولا يمكن مقارنته مع فعل غير عادي وغير بريء كغياب ذلك الحجم الهائل من الوثائق التقنية (كدلائل مدعمة لإثبات جرائم ارتكبها نظام الأسد وداعموه)؛ إلا أنه بحكم ضخ "السوشال ميديا" الكثيف تتزاحم المواد، ويتم السطو على الذاكرة؛ لتزيح شيئاً، وتضع مكانه آخر.

فيديوهات الإدانة التي رفعها على شبكة الإنترنت ناشطون إعلاميون في الثورة السورية، ومؤسسات إعلامية يعتَدُّ بها؛ لم تكن للتسلية، ولا لممارسة هوايات شخصية، وإنما حملت هدفاً جوهرياً يتمثل بتوثيق إجرام "نظام" بحق شعبه. لقد كانت توثيقاً للأجنة والجينات الإجرامية لمنظومة ذبحت السوريين؛ ولذلك تمت إزاحتها عن الشبكة العنكبوتية. وتحدياً لتلك الجريمة، تستمر مئات الورش والمراكز البحثية بجمع وتحليل وتوثيق فيديوهات ومواد أخرى، كسجل لما جرى، في ملفات قاربت المليون؛ ستجد طريقها إلى محاكم العالم.

في اللحظة التي سيقرر فيها هذا العالم فتح محكمة لهذا النظام المجرم، ستجد ملايين الأدلة لا ستة آلاف فيديو توثق جرائمه؛ ستجد داخل كل سوري ألف شهادة على إجرام النظام

إذا كان إخفاء فيديوهات الحقيقة السورية خطوة سياسية مقصودة، تمثل جزءاً من حملة أوسع، تسعى إلى تبييض صفحة المجرمين بحق سوريا وأهلها، عبر التركيز على إجرام داعش والمؤامرة الكونية، وعودة الأمور إلى طبيعتها، والتحالف العضوي مع روسيا، وتكريس عدم وجود بديل للأسد، ومساعي التطبيع وإعادة التأهيل؛ فاستلزم هذا حذف آلاف الفيديوهات؛ فليبشر هذا العالم بستمئة ألف فيديو ومثلهم من الوثائق. والأكثر من ذلك، أنه إذا كان الفيديو دليلاً إلكترونيا، فهناك الدليل الحي، شاهد العيان، ممن أبقاهم نظام الأسد على قيد الحياة. هناك أكثر من عشرة ملايين سوري تبعثروا في أربع أصقاع الأرض هرباً من براميل النظام وطائراته؛ هناك مذابحٌ عظام أصحابها ما تزال حيّة وموجودة في مختلف البقاع السورية؛ وهناك ما يقارب المليون مُقعد، تسببت حرب "النظام" بإعاقتهم؛ وهناك مئات الآلاف ما زالوا يرزحون في معتقلاته- إن لم يكن قد ذبحهم أو أحرقهم أو قتلهم تحت التعذيب.

في اللحظة التي سيقرر فيها هذا العالم فتح محكمة لهذا النظام المجرم، ستجد ملايين الأدلة لا ستة آلاف فيديو توثق جرائمه؛ ستجد داخل كل سوري ألف شهادة على إجرام النظام؛ شهادات تغمر كل محاكم العالم. لم يكن هناك إنترنت، وما احتاج "الهولوكوست" توثيقات لتستمر إدانة النازية حتى اللحظة. لم يكن هناك حتى صورة إعلامية واحدة لمجازر حماة التي ارتكبها مؤسس منظومة الأسد، ولا تزال حيةً؛ وكأنها تحدث الآن. ما حدث في سوريا تجاوز "هولوكوست" هتلر؛ ولينزعج اليهود. من هنا لا خوف على هذه الذاكرة السورية التي أضحت هي ذاتها حياتهم. ومن هنا أيضاً، الاستهجان والرفض والسخط السوري على كل ما يعبث بهذه الذاكرة السورية أو ما من شأنه أن يؤثر على صورة الجريمة التي ارتُكبَت بحق سوريا وأهلها وعلى الصورة التي وجدت طريقها إلى ذهن العالم عن أوجاع وآلام السوريين. ومن غير الوارد أن يتم تقديمهم بأي طريقة غريبة عنهم مؤذية لمشاعرهم مستفزة لخواطرهم.

وإن كان لا بد من إصلاح أو ترميم لذلك الاستفزاز أو الأذى الذي لحق بالسوريين، فمن الضروري فعل شيء للتكفير عن ذلك. لا بد من الاستفادة من خبرة ذلك الشاب وأمثاله، ومن هذا الانتشار الواسع لعملهم، والاستقبال المليوني لفيديوهاتهم، والبحث أولاً عن تلك الفيديوهات التي توثق إجرام النظام وأعوانه- والتي أخفتها الشبكة العنكبوتية- وإعادة إحضارها إلى الشبكة بقوة؛ ثم الانتقال الفعلي إلى تقديم القصة السورية ثانية إلى الذاكرة العالمية لتبقى القضية ومواجعها حية.

يريد السوريون أن يروا هؤلاء الشباب الخبراء في مخيمات السوريين وفي بلاد النزوح. يريدون منهم فيديوهات عن المعتقلين والشهداء، والأبنية والأرواح المدمرة، وفيديوهات عن الذل الذي يعيشه السوري في بلده، وفيديوهات عن أمهات شهداء وعن أطفال بلا مدارس أو صحة. وعلى ذكر الأجنّة والأبناء، يريد السوريون فيديوهات عن أبناء قتلة السوريين وتمتعهم بأموال سرقها آباؤهم. وفيديوهات عن أجنة الشر حسن نصر الله، وخامنئي وأوباما وبوتين. هكذا نحمي الذاكرة، لتكون قوة مسلّطة على رقاب المجرمين بحق سوريا وأهلها.