عشر سنوات.. الجيش الحر "التنظيم والرمزية"

2021.02.17 | 00:03 دمشق

ray-fysl.jpg
+A
حجم الخط
-A

الجيش الحر هو اسم تم إطلاقه على التشكيلات المسلحة التي تشكلت بعد استشراء العنف المستخدم ضد المناطق السكنية التي شكلت حواضن للحراك السلمي في سوريا، وتعرضت لحملات ضخمة من قبل الجيش وقوات الأمن والميليشيات التابعة لها، والتي ترافقت مع عمليات اعتقال وتصفية كان من بينها مجازر بحق المدنيين وانتهاكات كبيرة في مجال حقوق الإنسان.

ورغم وجود نوى أساسية عبر بعض العناصر بشكل منفرد أو عبر مجموعات صغيرة تسلحت بأسلحة نارية فردية معظمها غير حربي في المرحلة الأولى، فإن الإعلان الرسمي لتشكل الجيش الحر جاء بداية عبر انشقاق المقدم حسين الهرموش عن جيش مجرم الحرب الأسد في حزيران ٢٠١١، وإعلانه تشكيل تنظيم الضباط الأحرار، ومن ثم تمت تسميته بالجيش الحر عبر إعلان العقيد المنشق رياض الأسعد تشكيله بتاريخ ٢٩ تموز ٢٠١١.

من المفترض أن الجيش الحر كما جاء في الإعلانين الرسميين يتكون من مجموعة الضباط المنشقين عن قوات النظام، والمعنية في تمثيل تشكيل عسكري موازٍ قادر على حماية المدنيين من حملات الاعتقال والمجازر المرتكبة بحق المتظاهرين السلميين والمناطق المنتفضة، ويبدو جلياً من الإعلانين أن الدوافع المؤدية للانشقاق لم تكن سياسية بقدر ما هي أخلاقية، ولم تخرج عن المهمة المفترضة للقوات المسلحة المعنية بحماية المدنيين وأيضاً المطالبة بحماية مؤسسات الدولة كما جاء في مطالبة الهرموش لقوات النظام بالانشقاق عنه وتولي هذين المهمتين، وبذلك لم يكن للجيش الحر أجندة سياسية، وإنما تجليها الأول هو رفض للأوامر بقتل المدنيين وممارسة الدور الحقيقي للقوات المسلحة.

كان الجيش الحر منذ تأسيسه وحتى اختفائه تحت وطأة الإيديولوجية والتوجهات الإقليمية والدولية صورةً رمزية إعلامية أكثر منه تشكيلا عسكريا مقاوماً

لما يعرفه السوريون مما يترتب على الانشقاق من مخاطرة كبيرة، اعتبروا الانشقاق وإعلان الجيش الحر تضحية عظيمة من قبل الضباط الذين قاموا بذلك مما جعل له شعبية كبيرة في صفوف المنتفضين والثوار ومنح عناصره مراتب بطولية، وصلت لمرحلة تقديس الجيش الحر لما يحمله من رمزية ضد رفض الظلم، وممارسة مقاومته، إلا أنه بقي رمزاً أكثر منه تنظيماً وتشكيلاً عسكرياً حقيقياً، حيث فشلت العناصر المنشقة المكونة له ومجموعات المدنيين الذين قرروا حمل السلاح في بناء كيان عسكري منظم منتشر على كامل التراب السوري بقيادة مركزية تسمح بواقعية التسمية التي تبنتها تلك القوى تحت مسمى جيش واحد.

كان الجيش الحر منذ تأسيسه وحتى اختفائه تحت وطأة الإيديولوجية والتوجهات الإقليمية والدولية صورةً رمزية إعلامية أكثر منه تشكيلا عسكريا مقاوماً، وتظهر المشكلة بداية مع دينامية عملية بناء الجيش الحر، الذي اعتمد على محاولات لتجميع المجموعات المسلحة التي تشكلت في القرى والأطراف من أبناء تلك القرى لحماية أنفسهم وسكان قراهم بالدرجة الأولى، الأمر الذي ساعد في ترسيخ فكر مناطقي مخالف في جوهره لفكرة الجيش الحر، وفي حين كان وصف الضباط المنشقين بداية له بريق بطولي واحترام كبير، بدأ ذلك يتراجع بعد ظهور قيادات محلية غير عسكرية حملت السلاح وتميزت بكسبها لولاء عناصرها نتيجة الارتباط العائلي أو العشائري أو المناطقي.

حقق الجيش الحر العديد من الإنجازات وصلت إلى السيطرة على الجزء الأكبر من التراب السوري، ولكن على عكس ما يهدف إليه، لم يكن ذلك الجزء عبارة عن منطقة محمية من قبله ككيان عسكري واحد، وإنما مجموعة من المناطق التي حررها أبناؤها تتسع بقدر ما يمكن لكل قرية أو لكل مجموعة من سكان القرى من السيطرة عبر جماعة مسلحة من أبنائها على قراها، ويتكون الجزء المحرر من الاتصال الجغرافي لتلك القرى، لتشكل منطقة خارجة عن سيطرة النظام، والتي تمت السيطرة عليها من خلال معارك قام بها أبناؤها بالدرجة الأولى مع بعض المؤازرات من مناطق أخرى كانت على أساس الفزعة أكثر منها على أساس الانتماء لتنظيم عسكري موحد تأتي أوامر تحركاته من جهة واحدة، فقد كانوا ينتمون رمزياً ومعنوياً للجيش الحر وليس تنظيمياً، مما جعل الولاء له ولاء لرمزية الفكرة وليس لتراتبية التنظيم، ولا يبقى دون دلالة المصطلح الذي تم إطلاقه على المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام ”المناطق المحررة“ وليس ”المنطقة المحررة“.

سرعان ما بدأت تتبلور جهود تجميعية للمجموعات المسلحة للجيش الحر، وأخذت أيضاً طابعاً مناطقياً، حيث تجتمع عدة مجموعات من مناطق متجاورة لتشكل تشكيلا جديداً تحت مسمى جديد، على أن المجموعات المشكلة لها تحافظ على استقلالية قرارها، لم يغدُ ذلك التجمع أكثر من حالات تنسيق في العمليات العسكرية، إلا أن بدء تدفق التمويل الرسمي وغير الرسمي راح يدعم بعض التراتبية الهرمية عن طريق تركيزه على مجموعة معينة منحها أفضلية بين باقي المجموعات، أو عن طريق اشتراط الممول توحيد القوى وتشكيل كيانات أكثر تنظيمية.

إن التسميات التي تم إطلاقها على كتائب الجيش الحر تمنح المتابع فرصة لفهم تطورات المسارات ضمن الكيان الافتراضي ”الجيش الحر“ ومآلاتها، بدأت تلك التسميات بدلالات مرتبطة بطبيعة المهمة والعناصر المشكلين للجيش الحر، مثل الضباط الأحرار، والجيش الحر، وبعد ذلك بدأت تتبنى المجموعات المقاتلة توجهات سياسية وإيديولوجية، كانت في بدايتها فوضوية مرتبطة بالشعارات التي أطلقت في الثورة، فكانت مثلا بعض الكتائب يتم تسميتها بأسماء شهداء سقطوا في الحراك السلمي مثل كتيبة الشهيد عمر الحاوي، أو لها دلالة ثورية مناطقية مثل كتيبة قبضة الشمال، وفي المقابل كانت هناك أجندات إيديولوجية أخرى إسلامية، مختلفة ومتمايزة فيما بينها، ولكنها متفقة على الإطار الإسلامي، وبدأت المجموعات المسلحة تتبنى تسميات لها رمزيتها الإسلامية، كأسماء صحابة مثل كتيبة ”الفاروق“ أو أسماء مرتبطة بـتأصيل القضية ومنحها بعداً تاريخانياً أكبر منها مثل ”أحفاد الرسول“ أو لها دلالات رمزية مثل ”شهداء اليرموك“، وكذلك بدأت قوى تتمايز بإنتاجها الفكري والسياسي ببناء أذرعها العسكرية مثل تشكيلات الدروع المرتبطة بالإخوان المسلمين بشكل مباشر، ولواء أحرار الشام، وثم جبهة النصرة التابع لتنظيم القاعدة، التي من تسميتها الأولى كان لها دلالة بعد خارجي مرتبط ”بنصرة المسلمين في بلاد الشام“ من قبل عناصر خارجة عن هذا النطاق.

بدأت هذه المرحلة في الثلث الثالث من عام ٢٠١٢ وبدايات ٢٠١٣ وباتت تأخذ طابعاً أكثر قوة وفاعلية على الأرض وتخطت البعد المناطقي باستبداله ببعد إيديولوجي فبدأت كثير من الكتائب المقاتلة تعلن انتماءها لهذا الفصيل أو ذاك، وساعدت الإيديولوجية الراديكالية على تفعيل عمل أكثر تنظيمياً وهيكلية، أيضاً بدأ ذلك التوجه يأخذ منطقاً أكثر قوة بسبب تركيز التمويل على جماعاته، وتصاعد النبرة الطائفية في الصراع بين النظام وقوى الثورة، فجاءت الجهود التجميعية تحمل بعداً إسلامياً مثل لواء التوحيد في الشمال ولواء الإسلام في الجنوب الذي تحول إلى جيش الإسلام لاحقاً.

ورغم المحاولات للتخفيف من حدة هذا الصعود، وتحديد أقنية الدعم عن طريق تراتبية جديدة على رأسها مجالس سميت بالمجالس العسكرية، لكن تراجع دور الضباط في مواجهة الطبقة الجديدة من القادة، والتي على سبيل المثال بات لها رتب جديدة مستمدة من الثقافة الشعبية ”الحجاج“ في الشمال، يضاف إلى ذلك تسرب قنوات متعددة ومختلفة للتمويل أدى إلى هيمنة التوجه الإسلاموي على تلك المجالس العسكرية لتفرغ دورها ثم لتنتهي فيما بعد تماماً مقابل جهود أخرى أكثر راديكالية، وأكثر محاولة للتجميع مرتبطة برؤى مختلفة عن السياق العسكري المعني بحماية المدنيين والمؤسسات، لتبني مشاريعها الخاصة للسيطرة على الإدارة المدنية للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، مثل الهيئة الشرعية والمؤسسات الخدمية مثل مؤسسة التوحيد أو المؤسسة الخدمية الإسلامية وغيرها، على التوازي بدأت تتشكل كيانات أكثر اتساعاً وأبعد من الألوية حسب المسمى العسكري، والجبهة بمعناها السياسي، فكان جيش الإسلام وفيلق الرحمن والجبهة الإسلامية التي تراجعت فيما بعد للجبهة الشامية، وأيضاً جيش الفتح وغيره.

إن العناصر المحلية المكونة للقوى العسكرية الموجودة على الأرض حالياً تتشكل في جزء كبير منها من العناصر التي شكلت الجيش الحر في بداية الثورة، هذا الشكل الذي اختفى رغم أنه من الأساس تنظيمياً لم يكن موجوداً، لكنه اختفى كحالة رمزية وأخلاقية للعمل المسلح ضد النظام بعد أن تمت إزاحة القيادات التي كانت تعمل عليه، أو تبنيها هي نفسها أهدافاً ومبادئ غير مرتبطة بالغاية الواضحة التي تكون الجيش الحر من خلالها، حماية المدنيين، وقد اختفى ليس بتراجع قواته، فالعناصر المكونة له ما زالت موجودة في كثير من القوى المسلحة الموجودة على الأرض.

اختفى الجيش الحر بسبب زوال معناه الرمزي في المخيال السوري الثائر، مما أدى لسقوط الاسم، لقد كان الجيش الحر رمزاً، واختفى بسبب زوال هذا الرمز

كثير من عناصر الجيش الحر بعد استشهاد أو تهميش العناصر الفاعلة فيها والتي كانت تجعل منه بحق جيش الثورة من ناحية تبني أهدافها الأولى في الحرية لكل السوريين ورفع الظلم عنهم، وحمايتهم كمهمة أساسية لأي مؤسسة عسكرية، كثير من هؤلاء العناصر بعد اختفاء الخميرة الحقيقية هم نفسهم العناصر التي تكون العديد من القوى الحالية أو تشارك في تكوينها، دفعهم لذلك قناعة أو حاجة أو طمع، فمنها من تحول للجيش الوطني الذي يعمل في مناطق نفوذ الأتراك ومنها في هيئة تحرير الشام ”النصرة“، منهم أيضاً من الفصائل التي انضمت لقوات سوريا الديمقراطية، بل من بات يقاتل إلى جانب النظام من الذين شملتهم ما سمي بالمصالحات مثل الفيلق الخامس تحت الإدارة الروسية.

اختفى الجيش الحر بسبب زوال معناه الرمزي في المخيال السوري الثائر، مما أدى لسقوط الاسم، لقد كان الجيش الحر رمزاً، واختفى بسبب زوال هذا الرمز.