عزمي بشارة ونظرية التحديث

2020.12.18 | 00:18 دمشق

20200205_1580865600-252913.jpg
+A
حجم الخط
-A

يناقش الدكتور عزمي بشارة في كتابه الحديث " الانتقال الديمقراطي وإشكالياته " نظرية التحديث السياسية التي طورها مارتن ليبست وأصبح لها تأثيرات مهمة على المؤسسات السياسية والمالية الدولية المانحة كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، يشير مفهوم التحديث هنا كما أشار إليه ليرنر الذي يعتبر الأب الروحي للنظرية إلى نموذج للانتقال التدريجي من مجتمع "تقليدي" إلى مجتمع "حديث". وتسعى النظرية إلى تحديد المتغيرات الاجتماعية التي تسهم في التقدم الاجتماعي والتنمية في المجتمعات، وتسعى إلى شرح عملية التطور الاجتماعي. إن نظرية التحديث لا تشدد فقط على عملية التغيير، بل أيضا على الردود على هذا التغيير. كما أنها تنظر إلى الديناميات الداخلية مع الإشارة إلى الهياكل الاجتماعية والثقافية والتكيف مع التكنولوجيات الجديدة.

يعتبر كتاب دانيال ليرنر بعنوان " تجاوز المجتمع التقليدي: تحديث الشرق الأوسط" كما ذكرنا من أوائل الكتب التي وضعت نظرية نفسية اجتماعية للتحديث. واستند الكتاب إلى الأبحاث التي مولتها وزارة الخارجية الأميركية في أواخر الأربعينيات. فقد كان الغرض الأصلي من البحث هو تحديد ما إذا كان الناس في الشرق الأوسط يستمعون إلى إذاعة صوت أميركا، والتأكد من ردود أفعالهم على البرامج المختلفة لهذه المحطة. وفي منتصف الخمسينيات، أعاد ليرنر تحليل البيانات في ضوء تصور جديد يدور حول فكرة أن القيم الغربية والأفكار التي تنشرها وسائل الإعلام الغربية يمكن أن تساعد في تحويل بلدان الشرق الأوسط من الدول التقليدية والبدائية إلى بلدان ذات بنى اجتماعية حداثية وقائمة على أسس حديثة من التنظيم الاقتصادي والسياسي.

يشير بشارة في كتابه إلى أن ليرنر يمّيز بين التمدين أو التحديث والقدرة على التنقل وبين الهجرات السابقة بسبب المجاعة والحروب

يشير بشارة في كتابه إلى أن ليرنر يمّيز بين التمدين أو التحديث والقدرة على التنقل وبين الهجرات السابقة بسبب المجاعة والحروب. وهذا ما يعتبره بشارة أنه تمييز ضعيف، لأنه "ليس جميع من وفد إلى المدن كان يمارس حرية التنقل الحديثة؛ فالأسباب لدى الكثير منهم كانت الهرب من الجوع أو الطاعون أو غيره، وكان الجديد هو الاكتشافات الجغرافية والثورة العلمية والصناعية" ، ثم يذهب أبعد من ذلك ليرى أن المشاركة السياسية عند ليرنر هي نتيجة أخيرة لعملية التحديث، "فالحكم الديمقراطي يأتي متأخرا تاريخيا تتويجا  لنشوء مؤسسات المجتمع المشارك، وقد فحص  45 دولة في العالم حصّلت نموا مستقرا ". وبالتالي فالتحديث عملية سابقة ولا تقود بالضرورة إلى الحكم الديمقراطي كما يشترط ليرنر.

كان ليرنر قد قدم في كتابه رئيس بلدية قرية بالجات في تركيا كإثبات على نظريته في التحديث، فرئيس البلدية هذا رجل غارق في القيم التقليدية التي صورها على أنها قديمة لكنها غير منقطعة مع العالم الحديث. وقد قدمه ليرنر على أن رؤيته للأمور دوماً اتسمت بأنها "ضيقة"، حيث أن حكمه على جميع القضايا والأحداث ينبع من منظور "الفضائل التقليدية" التي يتبناها. ولم يكن لرئيس البلدية هذا أي رغبة في مغادرة قريته فقد أراد فقط أن يكون أبناؤه جنوداً جيدين للخدمة في جيش أتاتورك الحديث وتحضير بناته للزواج بشكل جيد. لقد كان في القرية حينها راديو وحيد، ولذلك راقب ليرنر بعناية مدى التأثير والسيطرة التي يمتلكها "صندوق الشيطان" هذا على مجتمع قرية بالجات في تلك الفترة. حيث كان رئيس البلدية أو المختار يدعو أبناء القرية إلى منزله للاستماع إلى الأخبار من أنقرة، ويدعي باستمرار أنه وحده قادر على تفسير معناها وأهميتها لحشود القرية.

في هذا السياق، ناقش ليرنر فكرته الواسعة المتمثلة في التغيير الاجتماعي التقليدي إلى الحديث التي تحفزها وسائل الإعلام. ويتألف المنطق الذي يقوم عليه التحول من الحجج التالية: "لا يوجد مجتمع حديث يعمل بكفاءة بدون نظام متطور لوسائل الإعلام". كما أن وسائل الإعلام الجماهيري "مفتوحة للجماهير الكبيرة وللأفكار والتجارب الحديثة؛ ويجري الانتقال" نحو التحديث بشكل تدريجي بفضل انتشار وسائل الإعلام ودخول التقنية الحديثة . ولذلك انتهى إلى أنه "لا بد للغرب أن يسعى نحو بناء الشرق الأوسط بحيث يصبح الإسلام في حالة دفاعية كاملة أمام روح العقلانية والروح الإيجابية" التي تتجسد في المؤسسات الديمقراطية على النمط الغربي."

على نظرية التحديث هذه، بنى مارتن ليبست نظريته حول الروابط بين الديمقراطية والتنمية، فإن الديمقراطية ستتبع في نهاية المطاف التنمية الاقتصادية، وتحديدا عندما يصل معدل الدخل إلى المعدل المتوسط ​​الذي سيعزز هيكل الطبقة الوسطى، وعندها ستظهر الديمقراطية بعد أن تمر المجتمعات بمرحلة التحديث، وتحقق "جميع الجوانب المختلفة للتنمية الاقتصادية - التصنيع والتحضر والثروة والتعليم - مترابطة ترابطا وثيقا لتشكل عاملا رئيسيا واحدا له علاقة سياسية بالديمقراطية". الأمر الذي سيجعل عدد المواطنين ذوي الدخل المتوسط المرتفع يتطلب مشاركة سياسية أعلى وبالتالي يمكن تحقيق تغيير ديمقراطي ناجح، وقد تمكن ليبست من إثبات نظريته هذه في عدد من الدول الاستبدادية السابقة التي تمكنت من الوصول إلى المستوى المتوسط ​​للدخل مثل إسبانيا والبرتغال في السبعينيات من القرن الماضي، وفي وقت لاحق كوريا الجنوبية.

نظرية ليبست هذه تربط التغيير الديمقراطي مع نمو أو تطور الطبقة الوسطى من خلال التنمية الاقتصادية، وقد درس ليبست التحول الديمقراطي في كوريا الجنوبية كدليل على نظريته من خلال مظاهرات الطلاب التي شهدتها كوريا الجنوبية في عام 1988 والتي أدت في نهاية المطاف إلى انتقال ديمـقراطي مستقر في كوريا الجنوبية بعد سلسلة من الانقلابات والحكم العسكري التي استمرت بين الخمسينيات والثمانينيات بعد الحرب الكورية.

 كان ليبست أول من لاحظ ما سماه العلاقة الإيجابية المتبادلة بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية، فوفقا لتعبيره "كلما كانت الأمة اقتصادياً أقوى، كان التحول الديمقراطي أسرع".

بيد أن بشارة يقرأ ليبست بطريقة مختلفة حيث يثني على محاولة ليبست ربط نظرية التحديث بدراسات الديمقراطية بحيث تتجاوز شكلانية المؤسسية المعتمدة التي شغلت بالبنية المؤسسية. فقد ربطت بين النمو الاقتصادي والتمدين وانتشار التعليم وغيرها من مكونات عملية التحديث من جهة، وديمومة النظام الديمقراطي من جهة أخرى، وذلك باعتماد مقارنات كمية بين الدول في معدل دخل الفرد ومعدلات النمو ومستوى التعليم وغيرها، وتحليلا لمعطيات بناءً على نموذج نظري. لكنه يرى أن شميتر سبق ليبست في تعريفه النظري لمفهوم التحديث؛ إذ لم ينصب اهتمامه على النظرية، بل "على البحث في شرَطي الديمقراطية المستقرة، وهما النمو الاقتصادي وشرعية نظام الحكم. إن شرط الحفاظ على الديمقراطية في العالم الحديث هو التطور الاقتصادي الذي يشمل التصنيع بما هو تغيير بنيوي للحيزات الاجتماعية، واتساع عمليات التمدين وارتفاع معدلات التعليم والنمو المستمر في ثروة المجتمع أو الدخل القومي وحصة الفرد منه، وهي عنده أيضا من عوامل النجاعة في النظام في مجمله".

برأي بشارة يشمل مفهوم ليبست للنمو الاقتصادي أربعة مركبات: 1. الثروة، وهي الأساس، وتقاس بمعدل دخل الفرد، أي حصة الفرد من الناتج القومي. 2. التصنيع الذي يقاس بنسبة من يعمل في الزراعة ونسبة استهلاك الطاقة للفرد. 3. التمدين الذي يقاس بحساب نسبة الذين يعيشون في المدن. 4. التعليم الذي يقاس بنسبة الالتحاق بالمراحل الابتدائية والثانوية والجامعية. هذه هي مقاييس ليبست للنمو الاقتصادي.

يرى بشارة أن معدل الدخل هو "مؤشر معقول على رسوخ الديمقراطية، ولاسيما إذا استثنينا الدول الريعية التي يشكل معدل الدخل فيها مؤشرا سلبيا 

يرى بشارة أن معدل الدخل هو "مؤشر معقول على رسوخ الديمقراطية، ولاسيما إذا استثنينا الدول الريعية التي يشكل معدل الدخل فيها مؤشرا سلبيا لأنه دليل على إعالة الدولة للمجتمع واعتماد الأخير عليها، ومن ثم تراجع الأجندة الديمقراطية تماما. لكن حين نرتب الدول بموجب مستوى التعليم وانتشاره تخرج دول ريعية من القائمة، ولا تدخل ضمنها دول سلطوية، وستدخل دول سلطوية قليلة مستقبلا ذات إنجازات في مجال التعليم إلى قائمة الدول الثلاثين الأولى في مستوى التعليم؛ إذ يرتبط ذلك بخطط الدولة ومدى إنفاقها على التعليم" فبشارة هنا ينتقد البعد الكمي في قراءة مؤشرات ليبست على اعتبار أن الأرقام لا تعكس بالضرورة تحولات المجتمع السياسية والاقتصادية، بدليل الدول الريعية التي لا يأخذ لها ليبست حسبانا في كتاباته.

وعليه يرى أن مؤشر التعليم أكثر دقة من معدل الدخل، فثمة "تناسب واضح بين الترتيب العالمي في مستوى التعليم والترتيب في مستوى الحقوق والحريات؛ إذ إن الدول الثلاثين الأولى في مستوى التعليم تكاد تكون كلها ديمقراطية بمقاييس مؤشر الحريات والحقوق السياسية، وتتخلف الدول الثلاث الأخيرة وفق مؤشر التعليم على مستوى الحقوق والحريات أيًضا".

بالنهاية يرى بشارة أن نظرية التحديث تضع سلسلة من الفرضيات التي يختبرها بشارة في كتابه الهام وهو ما ينتهي بالقول أن:

الفرضية الأساسية: للتطور الاقتصادي تأثير إيجابي في مستوى الديمقراطية، وهي فرضيته منذعام1959.

ثانيا، عند المقارنة بين المستعمرات الإنكليزية والفرنسية السابقة يتبين أن الحكم البريطاني السابق مساعد على الدمقرطة في مقابل تأثير سلبي للماضي الكولونيالي الفرنسي.

 ثالثا، إن لوطأة النظام السلطوي أو مدى قمعيته تأثيرا سلبيا في احتمالات الديمقراطية، وهو عامل مهم بلا شك.

رابعا، التعبئة السياسية تقلل من احتمالات الديمقراطية.

خامسا، يساعد الإدماج المتزايد للدول النامية في المنظومة العالمية مع نشر التقدم الاقتصادي والتكنولوجي والثقافي، التنمية السياسية و يسهم فيها، ثم يذهب بشارة إلى مناقشة هذه الفرضيات واحدة تلو الأخرى إذ يعتبر "أن البعض ربما تأثر بوعي أو بغير وعي بنزعة الاستعمار الاستيطاني الولايات المتحدة، كندا، نيوزيلندا، أستراليا، إسرائيل، جنوب أفريقيا) إلى تشكيل مجتمع المستوطنين على أساس المشاركة السياسية الحصرية وترسيخ التعددية فيه، فانقلبت عنده إلى «فضائل» الاستعمار البريطاني في توريث الديمقراطية"، كما أن ليبست في عام 1960، في كتابه الإنسان السياسي، أشار إلى أنه من الضروري أن ُيقدّر الناس الديمقراطية لذاتها، لا لمجرّد فاعليتها في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، بل لأجل مميزاتها السياسية أيضا، وحينها تصبح الديمقراطية مستقرة بالفعل. وكي تصمد الديمقراطية في الأزمات لا يعقل أن تعتمد الشرعية على حسن الأداء الذي دحضته الأزمة، بل يفترض أن تكون ثقافة أوساط واسعة من الناس، أو على الأقل ثقافة النخب السياسية الرئيسة، قد تشربت قيم المشاركة السياسية وحماية الحقوق والحريات، وهو ما يعتقد بشارة أن يغير فرضيات ليبست ويعيد التركيز على نوعية التعليم بدل التركيز على المؤشرات الاقتصادية وحدها.

بالنهاية، انتقد النشطاء الديمقراطيون نظرية ليبست هذه لأنها أعطت تبريراً للغرب وخاصة مؤسسات التمويل الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين لدعم الحكومات الاستبدادية، فقد كانت الحجج التي تسوقها هذه المؤسسات دوما أن الحكم الاستبدادي يخلق بيئة اقتصادية وصناعية سليمة في بيئة اجتماعية وثقافية هشة، ولذلك لابد من تقديم الدعم الضروري لهذه الأنظمة غير الديمقراطية حتى تتطور اقتصاديا وتنمو الطبقة الوسطى فيها بشكل يقود إلى التحرر السياسي.