"عرب سعيد".. وانتهت الدعوة وبدأت الدولة!

2020.06.28 | 00:00 دمشق

al-qaeda-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يعنينا العنوان بشيءٍ كثيرٍ، هو فقط إشارة إلى ما وقع من اقتتال دامٍ بين فصيلَين، كلٌّ منهما يحمل نفس الأيديولوجيا والمنشأ الثقافي والطبقي تقريباً، وهما "تنظيم هيئة تحرير الشام" المتطوّرة عن جبهة النصرة فرع القاعدة في سوريا، والتنظيم الآخر هو غرفة عمليات عسكرية تُسمّى "فاثبتوا" جمعت بين ذراعَيها فلولَ أصحاب التوجّه السلفي الجهادي ومجاميعَهم من عدّة تنظيمات كتنظيم حرّاس الدين وأنصار الدين وأنصار التوحيد وتنسيقية الجهاد...

والعادة دوماً أن تتعالى الصيحات كيف يقتتل مسلمون وإسلاميون من نفس "النَّفَس"؟!، بل وأكثر من ذلك منذ شهور كان قادة عمليات "فاثبتوا" رأسَ حربة يوجّههم قائد جبهة النصرة والهيئة أبو محمد الجولاني لضرب خصومه من الحركات الإسلامية والوطنية الثورية في سوريا.

والعادة أيضاً أن تبدأ التبريرات الشرعية لهجوم هيئة تحرير الشام على خصومها من جماعة "فاثبتوا" وأنّهم خرجوا عن السلطة الشرعية!

لماذا يقتتلون؟

والحقيقة العميقة في هذا لا تبريرات شرعية ولا عواطف مُزْجاة، وإنّما هو السياق الطبيعي فيما يُسمّى إدارة التوحّش وانتقال الدعوة إلى السلطة،

ومنذ القدم فإنّ أدبيات الدعوة تختلف عن أدبيات السلطة؛ حيث يبدأ الداعية السياسي بإطلاق فكرته ويجنّد لها الأتباع والأنصار ويحشد لها المتطوّعين الذين لا يَأْلون جهداً ولا مالاً في سبيل نصرتها حتى تكثر الجموع وتقوم الثورة وتهتزّ السلطة.. نعم هذا ما حصل مع العبّاسيين عندما جَهَر أبو مسلم بدعوى الرضى من آل محمد واجتاحت قوّاته الدولة الأموية وأجهزت عليها!

كان من المتوقَّع أن يحصل الدعاة هنا على موقع متميّز في هذه الدولة لمّا صدقوا في دعوتهم في نصرة "آل محمد"  ولكن هيهات، بل أكلت الدعوةُ أقطابَها فقُتل كبير الدعاة سليمان بن كثير وأبو سلمة الخلّال (وزير آل محمد)، وحتى أبو مسلم الخرساني كبير السفّاحين الذي أَهْدَفَ نحرَه لتمكين بني العباس.

ودعوا أبا العباس السفّاح الخليفة العباسي المؤسّس الأول يشرح لنا لماذا هذا؟

عندما أسرف عمّه محمد بن علي العباسي في سفك الدماء وقتل الأمويين في الشام، أرسل إليه قائلاً: قولوا لهذا المسرف في سفك الدماء أن يكفّ فقد انتهت الدعوة وقامت الدولة..

أبو العباس يدرك أنّ مرحلة الدولة غير مرحلة الدعوة وأنّ الداعية حتى ينجح يكفيه أن يكون محارباً وصادقاً وخطيباً، والناس لا تطلب منه أكثر من حمايتهم، ولكن مع ارتقائه للسلطة وانكشاف كنز الشهوات التي تحتضنهم سرعان ما تتغيّر المعادلة وتشرئبّ المطامح وتضيق مساحة الإيثار، فالعرش لايسع إلا واحداً من الطامحين، وبالتأكيد فقد جاءت الدائرة على محمد بن علي وقتَله ابن أخيه أبو جعفر المنصور الخليفة الثاني.

وهذا أنّ كلّ جماعة تبني مشروعها السياسي على وفق دعوى أيديولوجية خاصة، فإنّ هذه الجماعة أول ما تصل إلى السلطة فإنّها ستفتك برؤوس الدعاة أنفسهم الذين بسيوفهم فَتحت وبجماجمهم سادت وبنَزَقِهم مزَّقت...

آن الأوان للسماح للمنظومة الاجتماعية في مجتمعٍ ما أن تعبّر عن نفسها في دائرة القرار العام بعيداً عن الوصاية والمنّة والاستخذاء

نعم كيف توحّدت السعودية تحت حكم عبد العزيز؟ توحّدت بسيوف "إخوان من أطاع الله" الذين سفكوا الدماء حسبةً وقتلوا المخالفين ردّةً، ولم يكن بحسبانهم أنّ قوّات مَلكِهم سوف تفتك بهم وتقتلهم يوماً! ليس شرطاً أن يكون ذلك مؤامرة ولكنّه السياق الذي يدخله المخدوعون بخمر الأيديولوجيا.. الذي ينسيهم ويلهيهم عن قول أبي العباس السفاح: انتهت الدعوة وقامت الدولة.

واليوم في سوريا بدأت قيادة تحرير الشام -وكذا عند كلّ منعطف واستحقاق- تتخلّص من داعية نَزِقٍ عمودُه صلْبٌ لايستطيع التكيّف مع انخفاض القنطرة، فطارت رؤوسهم على شفرات الاستهداف والعبوات والاعتقال والسجن، وهم نفسُهم من قاتلوا تحت رايتها حتى مَقبِض السيف. ولن يعدَم من بقي في الدولة من "شرعيين" أن يبرّروا قتل مخالفيهم بذرائع البغي أو التمرّد أو فرض النظام الجديد.

إنّ السلطة هي سيّدة الشهوات؛ من أجلها تُسفَك الدماء المعصومة، وتُنهَب الأموال المُحْرَزَة، وتُهتَك الحرمات المصانة، وتلوى أعناق النصوص، وتُقطَع أعناق الرجال، ويَستحلّ المسرِف المخدوع بها ما حرّم الله بتأويلات المصالح وبراقع الشعارات.

كنّا -ولا زلنا- ندعو إلى فهم حقيقة السلطة والدولة وتداخل الاجتماعي مع الاقتصادي مع النفسي مع الديني، وكلّ ذلك في سياق متغيّر في البنْية والعمق، يستعصي على قَبول الاستنساخ النمطي أو الوقوف عند شعارات المؤسّسين.

لا للتلغيم الأيديولوجي لا للحَقْن التكفيري، لا لدعوات التصنيف والتكفير.

آن الأوان للسماح للمنظومة الاجتماعية في مجتمعٍ ما أن تعبّر عن نفسها في دائرة القرار العام بعيداً عن الوصاية والمنّة والاستخذاء...

وكم من داعيةٍ سيَحشُد وأول رأسٍ سيُقطَع هو رأسُه، فالدولة أقوى من الدعوة !