عام الفيل

2021.05.10 | 06:40 دمشق

_115224566_115211828_biden_trump_header_2_getty.jpg
+A
حجم الخط
-A

من أكثر "تجليات" الإعلام العربي غرابة، الحرص الشديد والبذل الشديد في تغطية الانتخابات الأميركية، في كل دورة خلال العقدين الأخيرين على الأقل، حصة كبيرة من التغطية والهواء المفتوح لأيام متتالية. مراقبة، متابعة لتفاصيل التفاصيل وما يرافق ذلك من إبهار بصري وإنفاق عال لا يوازيه أي إنفاق لحدث عربي، حتى أن ذلك في كثير من الأحيان يكون على حساب بعض قضايانا، هذا كله مؤشر على الأهمية والأولوية لدى الأنظمة التي ترعى وسائل الإعلام وهذا كله بلا شك يضع الجمهور العربي في مواجهة تلك التغطيات والضخ الذي يجعله جزءا من الحدث دون إرادته ليكون مهيأ تماما لما هو قادم.

تنتهي التغطيات وغالبا تفرز منتشيا وخائبا، فنادرا ما يكون الفائز برئاسة الولايات المتحدة على مزاج الجميع، غالبا ما يكون هناك معسكران وربما ثلاثة بإضافة معسكر اللامبالي الذي يتلقى الفعل دون ردة فعل.

يستلم الرئيس الأميركي -أي رئيس- فتعكف دوائر صنع القرار العربية على تعديل قراراتها ووضع خططها "الأربعية"

في الانتخابات الأخيرة كان ذلك جليا حتى أن الأمر تحول لاصطفاف سياسي أكثر منه تغطية إخبارية، بدت فيه بعض وسائل الإعلام العربية كداعم لمرشح بعينه كأنها جزء من حملته، دافعت عنه واستشرت حتى أن البعض ذهب لتسمية الانتخابات بأنها استفتاء على سياسته دون اعتراف بوزن الخصم فقالوا "إنها الترمبية السياسية" وبخسارة ترمب توقف الضخ وتحول بحثا عن أعذار، وعادة ما تلبس كل هذه الأفعال والقرارات السياسية المحضة رداء المهنية الذي بات يفصله كل على هواه.

يستلم الرئيس الأميركي -أي رئيس- فتعكف دوائر صنع القرار العربية على تعديل قراراتها ووضع خططها "الأربعية" على غرار الخطط الخمسية التي كان يضعها نظام الأسد. هي خطط لأربع سنوات تماشيا مع فترة الرئيس التي تفرض وللأسف على الأنظمة سلوكها الداخلي والخارجي فنشهد التحولات الكبرى بمقاييس السياسة كأن تفرض مقاطعة وحصار بين دول شقيقة وكذلك ترفع هذه المقاطعة وينتهي الحصار، وهذا سيحصل عادة في عام الرئيس الأميركي الأول وبالتالي تقدم الدول أوراق اعتمادها للمكتب البيضاوي، سنشهد في عام الرئيس الأول -أي رئيس- تضييقا على الحريات وزجا في السجون وقتلا للحياة السياسية وربما قتلا للمعارضين أو حتى أشابههم ويصل الحال إلى تقطيع الأجساد بالمناشير ولتتكرس التبعية لمزاج البيت الأبيض يمكن أن تبيض السجون وتطلق الحريات أو يخفف عنها في عام رئيس آخر. أما على صعيد العلاقات البينية بين الدول التي من المنطقي دائما أن تكون المصالح المشتركة هي معيارها الأساسي وعوامل الجوار والقرب الثقافي والحضاري وكثير غيرها، لكن اللامنطقي هو أن تحكم هذه العلاقات بعوامل من قبيل إرضاء سيد البيت الأبيض أو أن تكون انعكاسا فقط لنوعية العلاقات التي تريدها واشنطن أو أنها كانت مزيفة لوقت طويل ووجدت ظرفا تاريخيا عبرت عن نفسها بوضوح، وفي الخلاف الخليجي الذي لم يكن يصدق أحد أنه يمكن أن يقع، فوقع بحدة أيضا لم يتوقعها أحد، وبعد ذلك لم يصدق أحد أن ينتهي، فانتهى أو أجل.. في هذا خير مثال.

هذه الأيام نشهد بوضوح تحركات وخطوات توافقية تصالحية في المنطقة لا تخطئها عين المراقب، هي من شأنها حقا أن تخفف الاحتقان وتبرد الجبهات وإن كانت بطيئة لكنها تتسارع وفيها صالح الدول والشعوب، لكن هل بنيت على أسس من قراءة الواقع والمصالح وخير المنطقة أم أنها ردة فعل ومن بين أوراق الاعتماد؟ هذا السؤال الأهم. أما أنا فلا أراها كذلك وإن ليس بكلها فببعضها. في هذه التحركات الكثير من رسائل التقارب والمناكفة والابتزاز، خاصة أنها تأتي واسعة على نحو مفاجئ غير مدروس، من تركيا إلى مصر والخليج وإيران.. ربما تكون ذات منفعة لكن مثلا أين منفعة المنطقة أو الشعوب من تقارب مع نظام الأسد أو تطبيع مع إسرائيل؟ حتما لا توجد خاصة وأن الشعوب في المنطقة ليس هذا هواها ولا تراه صحيحا.

الأمور هنا تتصاعد إلى نقاط اللاعودة وعلى الجميع الخروج من خانة الهامش إلى المتن في كل ما يفعلونه أو يقررونه

إذن والحال هذه، تأتي التحركات في وقت لا مجال فيه لأنصاف المواقف أو الشبهات، إنه ظرف ضاغط لا بد أن يجعل هذه الخطوات أكثر صلابة والتحركات أكثر تأثيرا ففي قضية الشعب السوري لا مجال لتقديم تنازل لإيران أو روسيا من خلال نظام الأسد لتحس الولايات المتحدة بثقل اللاعب، لا مجال أيضا لترك ما يحدث بالقدس دون تسجيل موقف أو تحرك. الأمور هنا تتصاعد إلى نقاط اللاعودة وعلى الجميع الخروج من خانة الهامش إلى المتن في كل ما يفعلونه أو يقررونه وأن يكون الموقف حاضرا أفضل من اللاموقف فإما أن يكون صائبا فينفع، أو خطأ فيُتعلم منه. يجب ألا نبقى كالطائر الأبيض الصغير الذي يقضي حياته على ظهر الفيل يعيش لينظف ظهره مما يعلق به، يتغذى على فضلاته ويخلصه مما يعلق به من البراغيث والحيوانات الصغيرة وينبهه وقت الخطر. فإن أحس به الفيل والتفت إليه خال نفسه صقرا جارحا يريد افتراس كل أقرانه غير آبه، وإن لم يحس به راح الطير يعافر ويعبث ويضرب هنا وهناك دون هدى، الطائر الأبيض ونحن بلا استراتيجيات ولا رؤى ولا طريق إلا الذي يرسمه الفيل ويمشي فيه.

لنتفق أننا في عام الفيل الأول وعليه سنشهد الكثير من المعافرة والعبث والقليل من الحكمة لأنه لا يبدو يحس بأحد في هذه المنطقة ولا تبدو قضاياها أو همومها تحظى بأي بند على أجندته المتخمة.