عالم ثنائي القطب بصيغة جديدة

2022.06.14 | 07:02 دمشق

thumbnail_alkarykatyr_altas_lshhr_adhar2022.jpg
+A
حجم الخط
-A

غالباً ما تُشكل المعلومات المبدئية - أي تلك التي تُكتسب في البدايات، وتحمل سمات القيم أو المبادئ الأساسية - إطاراً يُحدد علاقة الفرد بمحيطه في فترات حياته اللاحقة، ويزداد حضور هذه المعلومات وفعاليتها كلّما ارتبطت بالمقدس، وكلّما كان حضور المقدس كبيراً في هوية ومعتقدات الفرد، ولهذا غالباً مانستغرب ذلك التناقض الذي يقارب الفصام أحياناً بين وجهين للشخصية، وجه سياسي أو علمي أو تقني، ووجه مرتبط بسائد مقدس، أو آيديولوجي، في مواقف يكون التناقض أو التضاد حادا بين هذين الوجهين.

لا يُشكل حضور المعلومات المبدئية، والمقدس، أو الآيديولوجي إشكالاً على صعيد علاقة الفرد بمحيطه، وراهنه، ومستقبله فقط، بل إنه يَسِمُ وقد يُحدد على نحو أوضح علاقة شعوب ومجتمعات براهنها ومستقبلها، ويمكننا الذهاب لما هو أبعد من ذلك، عندما نحاول قراءة استراتيجيات دول كبرى في علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع دول أخرى، ونكتشف أن استراتيجياتها ترتكز في جانب مهم منها على استغلال الحمولات الماضوية لهذه المجتمعات.

الأديان، والمذاهب، والقوميات، والطوائف وما إلى ذلك من تصنيفات مشابهة، تصبح في زمن الفقر، والجوع، والقهر عاملاً فاعلاً في انقسام المجتمع على كل المستويات

في المجتمعات التي لا تزال حمولات ماضيها فاعلة في حاضرها، فإن احتمالات تدمير هذه المجتمعات لذاتها تزداد قوة، وغالباً ماتشكل هذه الحمولات بيئة مناسبة جداً للتدمير الذاتي، فالأديان، والمذاهب، والقوميات، والطوائف وما إلى ذلك من تصنيفات مشابهة، تصبح في زمن الفقر، والجوع، والقهر عاملاً فاعلاً في انقسام المجتمع على كل المستويات، وتُصبح كل هذه الحمولات بمثابة قنبلة موقوتة، قابلة للانفجار في أي لحظة.

هل يُمكن على ضوء ما سبق، اعتبار هذا العامل من العوامل الفاعلة في إدارة الصراعات الراهنة، وتحديداً في الصراع الذي نشهد تفاصيله اليوم، بأوجه متعددة في ساحات متعددة من العالم، ويتكثّف في عدة مناطق مشتعلة، أبرزها الحرب الدائرة في أوكرانيا، وفي سوريا وكامل منطقتنا، سواء في العراق، أو لبنان، أو اليمن، والعراق، أو في مناطق أخرى من العالم؟

تُعتبر الشيوعية في قراءتها للتاريخ، أن أي مرحلة من مراحل البشرية هي نتيجة تطور طويل وسلسلة من الثورات في أساليب الإنتاج والتبادل، وأن كل مرحلة من مراحل التطور التي مرت بها البشرية، يقابلها رقي سياسي مناسب، ويقابلها أيضاً تطور ثقافي وقيمي، تحتاجهما المرحلة الجديدة في تكريس هيمنتها على الاقتصاد، أي على أساليب الإنتاج والتبادل، ومن هنا ذهب فلاسفة شيوعيون كثر للحديث عن استنفاذ الرأسمالية لأدواتها، وعن أزمتها البنيوية الحتمية، ووصل الأمر عند بعض آخر للحديث عن نهاية التاريخ.

من جانب آخر ترى بعض وجهات النظر، أن الرأسمالية مضّطرة من أجل تجديد قدرتها على البقاء، أن تختلق الأزمات التي تضخ دماً جديداً في عروقها، وهذا ماقاله على سبيل المثال المنظر الشيوعي تروتسكي: "الرأسمالية تحيا بالتأكيد على الأزمات وفترات الازدهار الاقتصادي كما يحيا الكائن البشري على الشهيق والزفير"، وبالتالي فإن الصراع الذي يحتدم اليوم هو هدف أميركا، كونها الرأسمالية الأقوى، وأنها -أي أميركا-  ترى في إطالة زمن هذا الصراع، وتوسيع رقعته وانخراط قوى كثيرة في العالم فيه، كفيلاً بتحويل عدد كبير من الدول إلى دول فاشلة، الأمر الذي يهيئ لصياغة عالم جديد، تستعيد أميركا فيه هيمنتها على العالم.

ثمة اتجاه آخر، يرى أن مسار أزمة أي مجتمع أو دولة ما، لا يتحدد فقط بمدى الأزمة الاقتصادية أو العسكرية الحاصلة فيه على أهميتها، فهناك ماهو بالغ الأهمية أيضاً، وهو الذي يجعل من أميركا أكثر قدرة على تجاوز أزماتها، وعلى التحرك بديناميكية أكثر من مجتمعات أخرى، ومرد هذا إنّما يرتكز أساساً على كونها الدولة الأقل حمولة للماضي، فهي دولة حديثة، وماضيها غير عميق، ولا يوجد فيها موروثات فاعلة ترتكز على تصنيفات قومية، أو مذهبية، أو طائفية، بمعنى ليس لديها ثقل ماضوي، يُعيق من حركتها.

وإذا أردنا من هذه الزاوية قراءة أطراف الصراع الأخرى، سواء أوروبا أو روسيا أو غيرها فإن أوروبا، ورغم أنها، قطعت إلى حد ما مع حمولاتها الماضوية، فإنها لا تزال تتعثر أمام استحقاقات هذا القطع، ويتخوف مفكرون وسياسيون أوروبيون من بروز مؤشرات عديدة على استعادة تلك الحمولات لحضورها في المجتمعات الأوروبية، ويرون في صعود اليمين الأوروبي المرتكز في جوانب رئيسية من خطابه، على إنهاض هذه الحمولات، دليلاً على نكوص قد يغير على المدى المتوسط والبعيد من وجه أوروبا، الذي حاولت تكريسه بعد الحرب العالمية الثانية.

فيما يخص روسيا فإن المشكلة تبدو أكثر تعقيداً، فروسيا القوية عسكريا، والمتخبطة اقتصادياً، والحاملة لماض لا يزال فاعلاً بقوة في صيغتها السياسية، وفي شكل الدولة فيها، تحاول في معركتها استنهاض ماضيها، واستغلال حضوره في تهيئة المجتمع الروسي لمعركة طويلة.

الأزمات التي افترضها كثيرون على أنها نتيجة "حتمية" للرأسمالية، لا تتحدد فقط بالاقتصاد وتوزيعه، ومدى التفاوت الطبقي في مجتمع ما، بل لا بدّ من قراءة علاقة هذه المجتمع بحمولاته الماضوية

لن أتطرق هنا إلى الصراعات الدائرة في منطقتنا، فهي عدا عن كونها انعكاساً لصراع مصالح الآخرين، ويتحدد مسارها ونتائجها بهم، إلا أن الأهم من هذا أنها صراعات يركّبها الآخرون دائماً على الصدوع والتشققات، الناتجة عن الحمولات الماضوية، الأمر الذي يجعل من حركة هذه المجتمعات معكوسة، وما يحصل من تقدم فيها ماهو إلا حاجة الآخرين لاستمرار مصالحهم.

إذاً، على مقياس حضور الحمولات الماضوية في الدول القائمة، يُمكن القول إن حركة هذه الدول ومجتمعاتها نحو المستقبل يتناسب عكساً مع قوة هذه الحمولات، وقدرتها على تقييد الدول، أو المجتمعات داخل محدداتها ومعاييرها.

هل يمكن القول إذاً إن الأزمات التي افترضها كثيرون على أنها نتيجة "حتمية" للرأسمالية، لا تتحدد فقط بالاقتصاد وتوزيعه، ومدى التفاوت الطبقي في مجتمع ما، بل لا بدّ من قراءة علاقة هذا المجتمع بحمولاته الماضوية، ومدى قدرته على تحييدها والإفلات من قيدها، وأن الرأسمالية قادرة على تجديد ذاتها عبر استثمار هذه الحمولات في صناعة أزمات داخل المجتمعات الماضوية متى أرادت

هل يُمكننا تخيل أن يعود العالم إلى قطبيته الثنائية، ليس من باب الاقتصاد والعسكرة، بل من باب الاختلاف بين رؤيتين تختلفان جوهرياً في علاقتهما بالفرد، رؤية ترى ضرورة تذويب الفرد في الجماعة، عبر المقدس أو الآيديولوجيا، ورؤية ترى ضرورة تأصيل الفردانية، وتحققها في الهيكل الهرمي للمجتمعات الحديثة.